المنبر الاعلامي الحر

إعادة النظر في التكييف القانوني لقضية “بلقيس الحداد” ضرورة قانونية ومجتمعية

يمني برس | احمد جحاف

لفت انتباهي مؤخرًا ما تداولته بعض الصفحات القانونية من صورة لجدول جلسات شعبة استئناف الأموال العامة بمحكمة استئناف أمانة العاصمة، وقد وردت فيه تسمية قضية المدعوة “بلقيس الحداد” – المعروفة بقضية شركة “قصر السلطانة” – باعتبارها قضية غسل أموال، وهو ما يدفعنا للتساؤل ابتداءً عما إذا كان هذا التكييف القضائي موافقًا لحقيقة الوقائع وللأركان المكونة للجريمة موضوع الإسناد، أم أنه قد انصرف عن التوصيف الدقيق للواقع القانوني إلى افتراض قانوني غير منضبط، سيّما وأن ما توافر لدينا من معلومات ومعطيات – من خلال تتبعنا لمجريات هذه القضية وتفاصيلها -يوحي – بل يقطع – بأن النمط الإجرائي الذي مارسته المذكورة إنما هو أقرب إلى صور النصب والاحتيال المعتمدة على التغرير، واستغلال حاجات الناس وجهلهم بطبيعة المعاملات، وليس إلى جريمة غسل الأموال كما قُيّدت به القضية.
وتأسيسًا على ما تقدم، فإن جريمة غسل الأموال، وفقًا لتعريفها التشريعي والفقهي، تستلزم وجود أموال متحصلة من نشاط إجرامي سابق، ثم يُصار إلى إدخالها في معاملات قانونية أو تجارية بقصد إضفاء المشروعية عليها، وهي بهذا الوصف جريمة لاحقة تفترض جريمة أصلية سابقة، بخلاف ما هو قائم في وقائع قضية قصر السلطانة، التي تندرج – في أصلها – ضمن ما يُعرف بالاحتيال الهرمي أو التوظيف الوهمي، حيث يتم اجتذاب الأموال من أشخاص راغبين في استثمار أموالهم مقابل وعود بأرباح مرتفعة وغير منطقية، ثم تُستخدم أموال المودعين الجدد لسداد أرباح المودعين السابقين، وهو نموذج احتيالي بامتياز لا يندرج منطقيًا تحت مفهوم “غسل الأموال”، وإنما تحت جريمة احتيالية مكتملة الأركان، تتوافر فيها عناصر التضليل، وسوء النية، والقصد الجنائي الاحتيالي.
ولما كان ذلك، فإن الركن المعنوي في الجريمة – والمتمثل في القصد الجنائي الخاص – يُعد حاسمًا في التوصيف الصحيح، إذ لا يستقيم قانونًا أن تُجرَّم الأفعال بوصف معين دون تمحيصٍ كافٍ في النية المصاحبة لها، وبخاصة أن هذه المسألة تتعلق بالفارق الجوهري بين الجريمة المنظمة بغرض غسل المال، والجريمة الاحتيالية التي تمارس بطابع استثماري مموّه. كما أن من الملاحظ أن كثيرًا من المشاركين في منظومة قصر السلطانة – ممن تم التعامل معهم لاحقًا كمتهمين – لم يكونوا منذ البدء سوى ضحايا أو مغرَّر بهم، زُجّ بهم في الشبكة دون وعي، ثم تحولوا بمرور الوقت، وتحت ضغط المنفعة أو المكاسب، إلى جزء من الآلية الاحتيالية ذاتها، وهو ما يطرح إشكالية قانونية دقيقة تتعلق بكيفية التمييز بين الفاعل الأصلي والمساهم العرضي، وبين الجاني الحقيقي والمجني عليه الذي أُفرغ من صفته القانونية بسبب تدرجه في المشاركة على غير علم بحقيقة النشاط.
ومن هذا المنطلق، كان من المتعين – بحسب وجهة النظر القانونية المحايدة – أن يُصار إلى ضبط هذه المسألة ضمن إطار تنظيمي وإداري اقتصادي، لا إلى زجّها في مسار جنائي قد لا يكون هو المآل الأكثر إنصافًا ولا الأنفع اقتصاديًا واجتماعيًا، إذ أن تحويل نشاط قصر السلطانة – رغم كل ما شابه من خلل – إلى شركة مساهمة عامة تُدار من خلال كفاءات استثمارية، وتخضع لرقابة مالية وفنية صارمة، مع تنظيم علاقات الشركاء والمساهمين وتحديد مسؤولياتهم، كان كفيلًا – في تقديري – بتقويم النشاط وتصفية الانحراف، مع حفظ الحقوق ورد الاعتبار، دون الحاجة إلى تصنيف جماعي يُخضع الجميع لذات الوصف الجنائي دون تمييز موضوعي.
وبناءً عليه، فإن هذه القضية تثير إشكالات قانونية جديرة بالمراجعة، سواء من زاوية التكييف القانوني الدقيق، أو من زاوية العدالة الجنائية في التفريق بين المسؤولية الجرمية الكاملة والمساهمة العرضية أو البريئة، فضلًا عن كونها تكشف الحاجة إلى تفعيل أدوات الرقابة الوقائية على النشاطات الاقتصادية ذات الطابع الجماعي، قبل أن تتفشى وتُدرج كقضايا جنائية متأخرة. وفي المحصلة، لا مناص من الدعوة إلى إعادة النظر في توصيف بعض الجرائم ذات الطابع الاقتصادي، على نحو يوازن بين مقتضيات الردع العام وبين حماية الاستثمارات من الضياع، وردع الأساليب الاحتيالية التي تتسلل تحت ستار الطموح المشروع.

المحامي والمستشار القانوني أحمد توفيق جحاف

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com