المنبر الاعلامي الحر

في حضرة غزة.. المهزلة الكبرى وسخرية القانون الدولي!!

بكل أسف، يكشف المشهد المأساوي في قطاع غزة والضفة الغربية، وتحديداً خلال الأسبوع المنصرم الذي وُصف بالأقسى والأكثر مأساوية منذ بدء العدوان، حقيقة صادمة: أن القانون الدولي، الذي طالما تغنى به العالم كدرع حامية للضعفاء، بات مجرد ستار شفاف يخفي أفعالاً تتناقض معه جوهرياً. ففي الوقت الذي تتباهى فيه القوى الكبرى بنظام “قائم على القواعد”، تظهر غزة كمسرح درامي لتهاوي هذه القواعد، وكأنها “مهزلة كبرى” يعشعش فيها النفاق والعبثية.

يمني برس | يحيى الربيعي

“إنهاء المهمة” في “الخيارات البديلة”

بينما تتوالى الدعوات الملغومة من شخصيات كـ “ويتكوف” بأن الولايات المتحدة “ستدرس خيارات بديلة لإعادة الرهائن إلى ديارهم”، وتصريحات “ترامب” الصريحة بـ “مطاردة المقاومة” و”إنهاء المهمة”، تتكشف فصول المأساة على الأرض. هذه العبارات تُخفي في طياتها ما يتجاوز كل مبادئ القانون الإنساني الدولي. فـ”إنهاء المهمة”، الذي تتجلى نتائجه في عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين والدمار الشامل للبنية التحتية، لا يمكن إلا أن يصطدم بمبادئ التمييز والتناسب وحظر الهجمات العشوائية.

وفي هذا المشهد المأساوي، لا تترك تصريحات بن غفير وسموتريتش، اللذين يقولان “حان وقت إغلاق باب أي صفقة واحتلال غزة”.. وكذا تصريحات ما يسمى بوزير الأمن القومي إلياهو في كلمة بالكنسيت: “دعونا لا ندخل في صفقات متهورة ويجب أن تكون لنا سيطرة كاملة ومطلقة على غزة”، أي مجال للشك في النوايا الحقيقية. إنها دعوة صريحة لتجاهل أي “حل سياسي” يضمن حقوق الفلسطينيين، وإصرار على “الحل العسكري” كسبيل وحيد، في تحدٍ صارخ لمفهوم العدالة والقانون الدولي.

 

أوهام “المدينة الإنسانية” و”الريفيرا”

أما الاقتراحات الصهيونية بإنشاء “مدينة إنسانية” على حدود غزة مع مصر، والتي وصفت بأنها “أشبه بمعسكر اعتقال” من قبل أكثر النقاد الدوليين، أما رؤية ترامب بتحويل غزة إلى “ريفيرا” بعد تهجير سكانها، فهي الأخرى أمثلة صارخة على محاولات تجميل لصورة الجريمة بالرتوش الترامبي. هذه المفاهيم تتناقض بشكل مباشر مع الحظر الصارم للتهجير القسري والترحيل بموجب القانون الإنساني الدولي.

على نفس الصعيد، قال مكتب حقوق الإنسان إن القرار الأخير للإدارة المدنية الإسرائيلية يمهد الطريق أمام الجيش الإسرائيلي لهدم الهياكل والمباني القائمة في المنطقة، وطرد ما يقرب من 1,200 فلسطيني يعيشون هناك منذ عقود. وأضاف أن هذا التهجير يمثل ترحيلا قسريا، ويعد “جريمة حرب، كما يمكن أن يرقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي سكان مدنيين، مع علمهم بالهجوم”.

وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، تم تهجير 6,463 فلسطينيا قسرا نتيجة لهدم منازلهم من قبل إسرائيل، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى 31 أيار/مايو 2025، ولا تشمل هذه الأرقام نحو 40,000 فلسطيني هجِروا من مخيمات اللاجئين الثلاثة في جنين وطولكرم نتيجة للعمليات الإسرائيلية العسكرية المكثفة في شمال الضفة الغربية منذ كانون الثاني/يناير 2025. وخلال الفترة نفسها، تعرض أكثر من 2,200 فلسطيني للتهجير القسري بسبب اعتداءات المستوطنين والقيود المفروضة على الوصول.

وفيما صدّق الكنيست الإسرائيلي مساء الاربعاء 23 يوليو/تموز على مقترح يدعو الحكومة الإسرائيلية إلى فرض سيادتها على الضفة الغربية وغور الأردن، يزداد المشهد عبثية حين يكشف سموتريتش عن “ضوء أخضر” أمريكي لتحويل غزة إلى “مدينة سياحية” بعد تهجير سكانها واحتلالها بالكامل. هذا التصريح، الذي لم تعلق عليه واشنطن رسمياً، يكشف عن تواطؤ ضمني في مخططات التهجير القسري والتطهير العرقي، ويؤكد أن “المدينة الإنسانية” ليست سوى قناع آخر لعملية استعمارية تهدف إلى تغيير ديموغرافية غزة بالكامل.

التقييم الصريح من “حنا” من مجموعة الأزمات الدولية بأن “لا توجد أهداف استراتيجية حقيقية لتحقيقها عسكرياً إلا إذا كان الهدف النهائي هو التهجير”، يضع النقاط على الحروف، لاسيما عند تأكيده أن “الولايات المتحدة مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدي بينما تتفاقم المجاعة في جميع أنحاء غزة”، وأن “الولايات المتحدة حمت إسرائيل في هذه المحادثات وهي ليست وسيطا بل هي طرف في المناقشات لأن الضمانات الأميركية تشكل عنصرا بارزا في أي اتفاق”. بل ويربط مباشرة بين الأفعال على الأرض وتعريف الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في “الترحيل” ضمن جرائم التهجير القسري والتطهير العرقي. وتتوافق تصريحات ترامب مع تصريحات مبعوثه ويتكوف يوم الخميس، الذي قال إن حماس أظهرت “عدم رغبة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة”. ويأتي قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من المحادثات في الوقت الذي يتفاقم فيه الجوع في قطاع غزة نتيجة الحصار الذي فرضته إسرائيل.

 

التجويع.. وصمة عار على جبين الإنسانية

في خرق فاضح لالتزامات القانون الإنساني الدولي، الذي يلزم القوة المحتلة بضمان حصول السكان على الغذاء والإمدادات الطبية، تشير وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية إلى “قيود شديدة ومنهجية” على دخول المساعدات لغزة. مشاهد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد، والتقارير عن وفيات مستمرة بين الرضع، وتزايد حالات الوفاة بسبب سوء التغذية، خاصة بين الأطفال، تمثل وصمة عار على كل مجتمع بشري. الأونروا، التي مُنعت من إدخال أي إمدادات إنسانية لأكثر من أربعة أشهر، هي الأخرى شاهد حي على هذه المأساة.

“الكثير من أبناء قطاع غزة لم يأكل شيئاً، لم يذق شيئاً من الطعام على مدى خمسة أيام”، هذه الحقيقة المريرة، التي تزامنت مع “وجبات القتل” في “مصائد الموت” المتسترة بنظم الإغاثة المفروضة صهيونياً وبدعم أمريكي والتي أزهقت أرواح أكثر من ألف فلسطيني، لابد تكشف عن استراتيجية متعمدة للحصار والحرمان. إن هذا “التجويع الرهيب” الذي يواجهه 71 ألف طفل و17 ألف أم، ويُهدد حياة مرضى السكري والكلى، يتجاوز كونه تحديات لوجستية، ليتحول إلى جريمة حرب ترقى إلى جريمة ضد الإنسانية، خاصة مع تجاهل أمر محكمة العدل الدولية بـ”تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية”.

 

“إنهاء المهمة”.. رخصة لحرب عشوائية وتراجع أخلاقي

بينما يصر ترامب على “إنهاء المهمة”، تتكشف الحقائق المروعة على الأرض التي تثير تساؤلات جدية حول الالتزام بمبادئ القانون الإنساني الدولي من تمييز وتناسب واحتياط. “عشرات الآلاف من المدنيين الذين قُتلوا وأصيبوا” وتدمير “معظم غزة” بحسب هيومن رايتس ووتش، إضافة إلى استهداف المدارس التي تؤوي النازحين وقتل الكوادر الطبية وتدمير المرافق الصحية، كلها مؤشرات على تخلٍ فعلي عن هذه المبادئ. العصابات الصهيونية التي تسمي نفسها “الجيش الإسرائيلي” تتباهى بنشر فيديوهات قتل الأطفال في إطار التلهي واللعب، في مشهد يبعث على التساؤل: أين حقوق الأطفال وحقوق الإنسان التي يتبجح بها الغرب؟

إن مفهوم “المدن الإنسانية” أو “المناطق الآمنة” المقترحة، والتي غالباً ما تتحول إلى فخاخ لقتل المدنيين، إضافة إلى إنشاء “مناطق عازلة” عبر هدم متعمد للمنازل، يشير إلى هدف استراتيجي للهندسة الديموغرافية، لا توفير الأمان المؤقت. العدو يواصل استهداف النازحين بعد تهجيرهم إلى مناطق ضيقة، ويُرغم سكان غزة على الانتقال إلى أماكن خالية من الماء في سعيه لتعطيشهم. هذا المسار من “إنهاء المهمة” ينحرف بالنزاع من عملية عسكرية مستهدفة إلى عملية تستهدف بشكل منهجي أو تتجاهل حياة المدنيين والبنية التحتية، وهو ما يشكل جرائم حرب على نطاق واسع.

 

عقيدة على محك التواطؤ المكشوف والصمت المدوي

تُقدم غزة اليوم اختباراً صارخاً وصورة فاضحة لعقيدة “مسؤولية الحماية” (R2P)، التي تلزم كيان الاحتلال والمجتمع الدولي بحماية السكان من الفظائع الجماعية لاسيما مع ما يجري من توثيق واسع النطاق للتهجير القسري والتجويع وخسائر الإبادة البشرية الجماعية. هنا، يبرز السؤال بقوة: لماذا لا يتحرك المجتمع الدولي؟

“من الذي منح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المحتل حق إنهاء المقاومة الفلسطينية كحق طبيعي؟”، سؤال يتردد صداه في أرجاء العالم، وتحديداً في الوقت الذي تُطالب فيه المقاومة بتسليم أسلحتها، فيما تواصل واشنطن والعالم دعمها للكيان بأفتك الأسلحة. هذا التناقض الصارخ؛ هل يكشف فقط عن صورة فاضحة لازدواجية المعايير أم أنه تواطؤ مباشر في جرائم حرب الإبادة والجرائم التجويع والتهجير والتطهير العرقي ضد أبناء غزة؟

مأساة الشعب الفلسطيني، التي وصلت إلى مستويات رهيبة، تُفاقمها حالة الخذلان العربي والإسلامي. “أين العرب؟ وماذا جرى للمسلمين؟ لماذا هذا الصمت؟” أسئلة تُلقي بظلالها على “أمة الملياري مسلم” ومئات الملايين من العرب، التي تعيش “موتاً جماعياً للضمائر وتنكراً عاماً للقيم”. فبينما يستمر العدو في إجرامه، تواصل أنظمة عربية وإسلامية تبادلها التجاري معه، وتسعى جاهدة لتقديم البديل عن منع اليمن للملاحة الصهيونية عبر البحر الأحمر. بل إن بعض هذه الأنظمة، التي يُفترض أن تكون في طليعة المدافعين عن القضية، تزيد من مستوى تبادلها التجاري مع العدو، وتحاول عزل ومحاربة من يناصر الشعب الفلسطيني، في تحول مأساوي للبوصلة الأخلاقية.

 

وهم نظام القواعد وسلاح المقاومة

إن التطبيق الانتقائي للقانون الدولي، حيث يبدو أن الحلفاء يُمنحون حصانة من المساءلة، يقوض بشكل أساسي مفهوم “النظام الدولي القائم على القواعد”. هذا يخلق سابقة خطيرة للإفلات من العقاب، ويُشير إلى أن المعايير القانونية قابلة للتفاوض وتعتمد على المصالح الجيوسياسية. الحركة الصهيونية، بأذرعها الأمريكية لاسيما حيث كيانها الغاصب، ليس كياناً جغرافياً، وإنما غدة سرطانية تتفشى ضمن “توجه عالمي” ذو أهداف عالمية، يتسم بالعدوانية والإجرام ويسعى لاستعباد الشعوب وطمس هويتها. إنها صاحبة فكرة “المليار الذهبي” والإبادة لبقية المجتمعات، تستمد إجرامها من خلفية ثقافية وفكرية خبيثة ترسخ نظرة سلبية تجاه المجتمعات البشرية الأخرى، ولا تعترف للعرب، تحديداً، بأنهم من أصل بشري.

في ظل هذا المشهد، تظهر “صلاحيات” المنظمات الدولية، من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية، مجرد “غرفة صدى” للتحذيرات والإدانات التي لا تُسمع. فبرغم الصرخات المتواصلة من الميدان، ووثائق الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر التي لا تدع مجالاً للشك بأن ما يحدث في غزة “تجاوز كل معيار مقبول”، إلا أن هذه المنظمات تواجه “جدران الإفلات من العقاب” وتحديات تشغيلية خطيرة تقلل من فعاليتها، والأهم من ذلك أنها واقعاً أصبح وجودها لا يعدو أكثر كونه شغلاً لمنصب “ممثل أممي” للإرادة السياسية للقوى الكبرى، وتحديداً الإرادة الأمريكية.

 

“ملابس الإمبراطور الجديدة” وخيار الصمود

لقد كشفت مأساة غزة النفاق العميق في قلب النظام الدولي الحالي، فـ”النظام القائم على القواعد” المعلن أصبح أشبه بـ”ملابس الإمبراطور الجديدة” – غير موجود في الواقع، ولكنه يُمدح عالمياً في الخطاب. إن هذا التآكل للمعايير الدولية، والسوابق الخطيرة للإفلات من العقاب، لابد ستكون لها عواقب مدمرة على الاستقرار العالمي.

وبينما يتواصل المسار العدواني للعدو، يسير في المقابل مسار عربي وإسلامي “لتثبيط الأمة عن نصرة الشعب الفلسطيني”. فكبريات الأنظمة العربية تتخذ موقفاً سلبياً تجاه القضية، وتعمل على “تسكين وتجميد” الأمة، وتُحظر أي نشاط شعبي لمناصرة فلسطين. الدعوات إلى السلام مع عدو لا يعترف بأي حق للأمة هي بمثابة “استسلام بعنوان السلام”، لاسيما في الوقت الذي يترك فيه الحبل على الغارب للعدو في أن يقتل ويدمر وينسف ويهجر بشهية إجرامية متناهية في البرود وبما هو عليه واقع الحال في غزة من البشاعة والفظاعة.

 

ختاما؛

في هذا المشهد المأساوي، يبرز الصمود العظيم للمجاهدين في قطاع غزة، وبطولاتهم التي قلّ أن يشهد العالم لها نظيراً. “العدو الإسرائيلي يعترف بأنه يواجه معضلة كبيرة في قطاع غزة”، ويعاني في قوته البشرية وفي المرضى النفسيين ومن تهرب الكثير من “قوات الاحتياط”. هذا الصمود يثبت أن الخيار الصحيح هو التمسك بالسلاح والدفاع عن الوجود، وأن “التجويع الجماعي لسكان قطاع غزة لا يعبر عن قوة عسكرية ولا عن انتصار عسكري بل هو مجرد إجرام رهيب وجرائم فظيعة جداً”.

والمؤسف، تبرز مفارقة صارخة تُلقي بظلالها على مصداقية الخطاب الدولي. ففي الوقت الذي تُطالب فيه الولايات المتحدة الأمريكية المقاومة الفلسطينية بتسليم أسلحتها، تتواصل أيادي الدعم الأمريكية لتُغدق على الكيان المحتل بأفتك الأسلحة وأكثرها تدميراً. هذا التناقض، الذي يصفه البعض بـ”منطق غبي وسيئ”، لا يُعد مجرد ازدواجية في المعايير، بل هو تجسيد لسياسة تهدف إلى إضعاف المظلوم وتمكين الظالم، في تحدٍ سافر لمبادئ العدالة والحق.

إن هذا الموقف الأمريكي يثير تساؤلاً جوهرياً في وجدان الأمة الإسلامية: أليست أمتنا هي أحوج الأمم لاقتناء السلاح في وجه هذه الهجمة الوحشية التي تستهدف وجودها ومقدساتها؟ إن دروس التاريخ القاسية لا تزال ماثلة أمام الأعين، فمجازر صبرا وشاتيلا، والفظائع المتكررة التي ارتُكبت في فلسطين، لم تكن لتحدث بهذا القدر من البشاعة لولا غياب السلاح الكافي الذي يمكن أن يردع المعتدي ويحمي المدنيين. هذه الأحداث الدامية لم تكن حبراً على صفحات من الماضي، بقدر ما إنها هي شواهد حية على الثمن الباهظ الذي تدفعه الشعوب حين تُنزع منها أدوات الدفاع عن النفس.

في السياق، تتجلى رؤية السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي، التي طالما أكد عليها، بأن “لا بد من التحرك ضمن السنة الإلهية بوجه المجرمين الصهاينة، وإلا فإن طغيانهم يزداد وشرهم ينتشر ويتوسع ليطال بقية الشعوب والبلدان”. كلمات تحتوي في مضموها على استراتيجية شاملة ترتكز على فهم عميق لديناميكية الصراع، وتؤكد أن الصمود والتحرك الفاعل هما السبيل الوحيد لمواجهة الإجرام المتصاعد، الذي لا يعرف حدوداً ولا يلتزم بقوانين.

 

قد يعجبك ايضا