المنبر الاعلامي الحر

تاريخ غيّر المعادلة

احترام عفيف المشرف

يوم السبت الموافق السابع من أكتوبر 2023م، اندلعت شرارة طوفان الأقصى التي غيّرت كثيرًا من المعادلات، وغربلت الشوائب لتمييز الغث من السمين. تجلّت المواقف ففضحت كلًّا بموقفه ومكانته، وما اختاره لنفسه من شرف أو عار—مِن المقاومة والمساندة والدعم بأي نوع أو شكل لطوفان الأقصى ورجاله، أو الانبطاح والتخلي، بل والتجريم والتقليل مما قامت به المقاومة الفلسطينية ومن ساندوها من دول محور المقاومة.

هذا التاريخ ميز الألوان وجعلها لونين لا ثالث لهما: إما أسود فاحم أو أبيض ناصع — كما يقال في الشريعة الإسلامية: برز الإيمان كله للشرك كله. لذلك لا مجال للمزايدة أو الفلسفة الجوفاء وضبابية المواقف؛ إما أن تكون هنا أو هناك، لا ثالث بينهما.

ما نراه أن أغلب المواقف قد اتضحت، والكثير قد حجزوا أماكنهم وجلسوا على مقاعدهم علانيةً بوضوح وشفافية. لهذا أعتبر أن السابع من أكتوبر له شأن كبير، إذ بدأنا نرى كل شيء بوضوح، وانتهت السمفونية المشروخة التي سمعناها عقودًا وهي تغرد قائلة إن القضية الفلسطينية هي القضية العربية الأولى والمركزية، وأن القدس هي البوصلة والغاية، والتي من أجلها تُعدّ الجيوش وتُدخر الأسلحة وتُشحذ الهمم وتقام القمم وتخرج البيانات المزلزلة التي تدين العدو. سمفونية استمعنا إليها إلى حدّ الملل والسأم، ولم تعد تحرك فينا شيئًا.

إلى أن جاءنا تاريخ السابع من أكتوبر 2023م فعرى الجميع، فارتدى كلٌّ ما يناسبه من أردية: إما رداء المقاومة والنصرة حتى النصر أو الاستشهاد، أو رداء الخنوع والتطبيع والمساندة الظاهرة—الذي أخرج الطوفان هذه الفئات من تحت الطاولة التي كانت تختبئ تحتها لعقود من الخيانة للقضية.

نعم، فقدنا كثيرًا من القادة الذين ضحّوا بسنين حياتهم للجهاد في سبيل الله وتوّجوا بتاج الشهادة في سبيل القدس، لكنهم تركوا خلفهم مشاريع قادة يسيرون على دربهم ويستنّون بحذوهم. نعم، بلغت مآسي غزة مبلغًا لا يطيقه البلغاء ولا الفصحاء وصفًا، لكنها تقول للعدو: غزة لم ولن تموت، وستظل تقاوم ما دام هناك طفل فلسطيني يولد وما دام هناك شرفاء في هذه الأمة.

هناك محاولات كبيرة وقوية لتقطيع أوصال طوق المقاومة، لكن هناك إصرارًا على الاستمرار والمواصلة؛ إنها معركة فاصلة لا رجعة فيها، لا استسلام فيها حتى النصر، ولا شيء غير النصر مهما كان الثمن ومهما بلغت التضحيات. ومع كل شهيد يسقط في معركة الكرامة، ينهض ألف مجاهد يحملون دمه ومنهجه وروحه.

حتى ظهور العمالة الواضحة أفاد الطوفان وزاد من قوته، لكي لا يتكيء على ركن واهٍ أو يثق بحكام وجيوش ودول مغلوبة على أمرها، لم يعد في يدها شيء سوى التوسّل لسيدها الأمريكي كي لا يسخط عليها.

ليس هذا كل ما صنعه السابع من أكتوبر؛ فقد لم يفضح الدول الخانعة فحسب، بل كشف عن كثير من الأشياء: فضحت مآسي غزة الشعوب التي ارتضت وضع التدجين والتجميد الذي عاشته طويلًا، وفضح المحلّلون السياسيون والمفكرون والكتاب ومن يزعمون أنهم عباقرة العصر، فكانت تحليلات بعضهم وتعاطيهم مع القضية مقرفة ومخزية ومهينة لهم. وفي المقابل، ارتفعت راية من نصّع جبينهم الذين لم يقولوا أو يكتبوا إلا كلمة الحق في هذه المعركة التي لن ينسها التاريخ.

وها هو الطوفان ما يزال يجرف الغثّ ويحتفظ بالدرر. وإن كان لنا أن نتنبأ بما سيحدث في المستقبل القريب، فبفضل هذه الرؤية الواضحة التي أحدثها وكشف بها كل مستتر، فسيَنضمّ إليه ويمضي في ركبه كثيرون ممن كانت أعينهم وعقولهم مشتّتة لا تعرف إلى أين تتجه. لقد شوّشت عقولهم من كان لهم براعة الإقناع بأن ما يحدث ليس إلا عبثًا أو غوغاء يصنعه المقاومون؛ فقد واهنت كلماتهم ودُحرَّت حجتهم، ولم يعد بإمكانهم إقناع أحد. ومع انضمام هؤلاء—وهم كثيرون—ستتسع دائرة المقاومة أكثر فأكثر. ما نقوله هنا ليس تكهنات ولا أمنيات، بل معطيات وقراءةً لما حدث ويستمر منذ ثلاث سنوات وحتى النصر، بإذن الله. والعاقبة للمتقين.

Comments are closed.