ما بين صعيد الجمع وسياسات التشظي
يمني برس || مقالات رأي:
في كل عام، يتوافد ملايين المسلمين من شتى بقاع الأرض إلى بيت الله الحرام، يؤدون فريضة الحج بقلوبٍ خاشعة، وأجسادٍ متجردةٍ من مظاهر الترف والتمييز. يلبس الجميع لباس الإحرام الأبيض، يقفون على صعيد عرفات، يطوفون حول الكعبة، ويسعون بين الصفا والمروة، في مشهدٍ مهيبٍ يجسد الوحدة الإسلامية بأبهى صورها.
الحج ليس فقط شعائر تؤدى، بل هو رمز للتلاحم، وموسم يعلو فيه النداء بالتلبية التي تلغي الفروقات وتجمع القلوب على توحيد الله. إنه اللحظة التي تصمت فيها النزاعات، وتتلاشى فيها الجنسيات والطبقات، لتبقى روح الإنسان المسلم وحدها ناطقة باسم الأمة الواحدة.
لكن المفارقة المؤلمة، أن هذه الوحدة التي تتجلى على أرض الحرم، تُقابلها سياسات تشظي وتمزق في ساحات القرار العربي. فبينما الملايين يقفون صفًا واحدًا في عرفات، تقف حكوماتهم متفرقة، غارقة في حسابات ضيقة، وفي مواقف متباينة تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين وغزة والقدس.
صعيد عرفات يعلمنا أن الجمع ممكن، وأن الإرادة عندما تتجه لله، لا تُشتت. لكن ماذا عن الإرادة السياسية التي تتجه نحو الغرب، وتطبع مع العدو، وتغض الطرف عن المذابح التي تُرتكب يوميًا في غزة، وعن الحصار الظالم، وعن الانتهاك الصارخ للمقدسات؟
ما بين الخيمة البيضاء في منى، والبيوت المهدمة في رفح، مفارقة يجب ألا تمر دون مساءلة الضمير العربي. ما بين زمزم المباركة ودماء الأطفال في دير البلح، يجب أن يُطرح السؤال: هل نعي حقًا معنى “لبيك اللهم لبيك” إذا لم نلبّ نداء المستضعفين؟
الحج رسالة سياسية بامتياز، تحمل في مضمونها دعوة للوحدة، وتحمل في طقوسها مفاهيم المقاومة والكرامة، فما نفع الطواف إن غاب الطواف حول قضايا الأمة؟ وما نفع السعي بين الصفا والمروة، إن لم نسعَ للعدل في فلسطين، والحرية في اليمن، والكرامة في القدس؟
في الوقت الذي ترفع فيه شعوبٌ أصواتها بنصرة غزة، نرى تخاذلاً رسميًا عربيًا لا يرقى لمستوى الدم المهدور. وحدها دول مثل اليمن، برغم الحرب والجراح، ترفع لواء العزة، وتُسند غزة بالصواريخ، وتقطع طريق الملاحة عن العدو الإسرائيلي، وتمنع مرور السفن المتجهة إليه، في موقف استثنائي يحفر في ذاكرة الأمة كصفعة في وجه الخنوع.
فليكن الحج، لا مجرد عبادة، بل محطة تعيد لنا بوصلة الطريق. فلنخرج من صعيد عرفات، لا فقط مغفورين، بل مستبصرين. فالمعركة ليست فقط مع الشيطان في الجمرات، بل مع شياطين السياسة والمصالح والتطبيع.
نحتاج إلى حجٍّ مستمر في ضمائرنا، إلى مواقف تُشبه بياض الإحرام، خالية من التلون والنفاق، ناصعة كالكعبة التي نتجه إليها، مخلصة كقلوب الحجيج وهم يرددون: لبيك لا شريك لك.
في ظل هذا التناقض الصارخ بين وحدة المسلمين في مناسك الحج وتفرقهم في الواقع السياسي، تتجلى الحاجة الماسة إلى استلهام دروس الحج في حياتنا اليومية. فالوحدة التي نراها في صعيد عرفات ليست مجرد طقس ديني، بل هي رسالة قوية بأن التلاحم والتضامن ممكنان إذا توفرت الإرادة الصادقة.
إن العالم العربي اليوم يواجه تحديات جسيمة، من الاحتلال والاستيطان في فلسطين، إلى الحروب الأهلية والصراعات الطائفية في اليمن وسوريا وليبيا. هذه التحديات تستدعي موقفًا عربيًا موحدًا، يتجاوز الخلافات الضيقة والمصالح الفردية، ويضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار.
لكن الواقع يشير إلى أن بعض الدول العربية قد اختارت طريق التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، متجاهلةً الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومتناسيةً الجرائم التي يرتكبها الاحتلال يوميًا بحق الأبرياء. هذا التطبيع لا يخدم سوى العدو، ويزيد من حالة التشرذم والانقسام في الصف العربي.
إن الحج يعلمنا أن القوة في الوحدة، وأن التفرقة لا تجلب إلا الضعف والهوان. فلنأخذ من هذا الدرس عبرة، ونعمل على تعزيز الروابط بين الدول العربية، وتوحيد الصفوف لمواجهة التحديات المشتركة. فالوحدة ليست خيارًا، بل ضرورة حتمية لضمان مستقبلٍ أفضل للأمة الإسلامية.
فلنأخذ من صعيد عرفات مثالًا يُحتذى به، ونعمل على تحقيق صعيد جمعٍ دائمٍ في سياساتنا ومواقفنا، بعيدًا عن التشظي والفرقة.
بقلم | أم هاشم الجنيد*