صوت غزة في خطاب أبو عبيدة.. هل يوقظ الشارع العربي!!
ما بين واقعٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ يترنّح بين الصمتِ والخذلان، يطلَّ أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، بخطابٍ مدوٍّ يمثل تحليلاً سياسياً عميقاً للوضع الراهن، نابضٍ بديناميكية دراماتيكية تُعيد صياغة المشهد. الخطاب، الذي جاء بعد أكثر من واحد وعشرين شهراً من “العدوان الهمجي” وأربعة أشهرٍ من الحصار الخانق على قطاع غزة، حمل في طياته رسائلَ ذات أبعادٍ إنسانيةٍ وأخلاقيةٍ تفوقُ كونه مجردَ سردٍ للأحداث، مُسلّطاً الضوءَ على محورَيْ الأمانة والخذلان، ومعيداً رسمَ خطوط الفصل بينهما.
يمني برس | خاص
“خطاب المرارة”.. صرخة في وجه الصمت العربي
لم تكن لغة أبو عبيدة في هذا الخطاب عادية؛ فقد كانت موجعةً وغاضبةً ومليئةً بالمرارة، وتحدثت على مدار ثماني عشرة دقيقة عن واقعٍ مريرٍ يعيشه الشعب الفلسطيني، ليس فقط تحت نيران الاحتلال، بل أيضاً في ظل صمتٍ عربيٍّ مطبق. الخطاب امتدّ ليشمل في مخاطبته إلى “الذين يشاركون العدو بالصمت والخذلان من المطبعين أو الصامتين”، محملاً إياهم مسؤولية ما يجري. هذا التوجيه المباشر يشكّل تحليلاً سياسياً حاداً يعري مواقفَ الأنظمة التي فضّلت الصمت والتطبيع على دعم الشعب الفلسطيني.
لقد كشف أبو عبيدة، بكلماتٍ واضحةٍ وصريحة، عن “خذلانٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ مخزٍ” لغزة، مؤكداً أن الرسالة كانت جليةً: بين الأمانة في الدفاع عن الحق والخذلان في التخلي عنه. الخطاب يهدف إلى استنهاض عزائم المقاومين، وفيه دعوةً صريحةً ومُلِحَّةً لاستنهاض عزائم الشعوب والحكام، وتأكيداً على أن غزة “لن تنكسر”، وأنها ستُذيق “عدوها مرارة ما فعل”، بالإضافة إلى “مرارة الصمت والخذلان” التي وصفها بـ”الجرح الدامي داخل الروح الغزّية”. هذه العبارة البلاغية العميقة حملت تعبيراً عميقاُ عن حالةِ صحوة الوعي التي يحاول الخطاب غرسها في وجدان الأمة.
“ثبات الجبال” مقابل “خزي المتخاذلين”
لقد رسم الخطاب صورةً تحليليةً لواقعٍ يتسم بتناقضاتٍ حادةٍ؛ فمن جهة، هناك “ثبات الجبال” من مجاهدي ومقاومي الشعب الفلسطيني، و”صبر الأنبياء” من شعبٍ عظيمٍ أبيٍّ معطاءٍ يواجه آلة الحرب بصلابةٍ وإيمان. ومن جهةٍ أخرى، هناك “خزي وعار الظلمة الفجرة من المحتلين الغاصبين”، ويضاف إليه “خذلان مخزٍ من أشقاء الدم والعروبة والإسلام إلا من رحم الله من الصادقين والمجاهدين والشعوب المقهورة المغلوب على أمرها ومن أحرار العالم المنسجمين مع إنسانيتهم”. هذا التباين الحاد يعكس في عمقه التناقض الأخلاقي، ويشير إلى فشلٍ سياسيٍّ ذريعٍ في المحيط العربي والإسلامي، حيث تغيب الرؤية الموحدة وتتراجع قيم الدعم والمساندة.
بكاء المرارة.. اتهام مباشر للضمائر الغائبة
تلك الكلمات المدوية لابد أنها صرخةً تستدعي الدموع والآهات، واستنهاض لحالة أمةٍ تتفرج على مأساة شعبها. إن تحويل هذه الكلمات إلى “صورة”، كما وصفها المتحدث، يكشف عن مشاهدَ مؤلمةٍ لحكامٍ وملوكٍ ورؤساءَ الأمة العربية، تُوجه إليهم تساؤلاتٌ حارقةٌ: “أين أنتم من أطفال غزة؟ أين الماء؟ أين الطعام؟ أين الغذاء؟ أين الدعم؟”. علامات استفهاماتٍ بليغة، تحمل اتهاماً مباشراً لحالةِ الصمتِ التي تُعدُّ في سياق الخطاب “مشاركةً في الجريمة”.
الخطاب يذهب أبعد من ذلك في تحليله، مؤكداً أن هؤلاء الأمراء والملوك، لو استمعوا بضمائر حية إلى هذه الكلمات، ونحّوا جانباً “كل ما يدور من ألاعيب وتطبيع وطاولات وما تحت الطاولات، ومن إنصات للمحتل وخنوع له، والله سيتألمون كثيراً”. هذه الكلمات تحمل في طياتها تحليلاً عميقاً لتأثير الصمت على الموقف الأخلاقي والقان والإنساني والواجب الدين في إغاثة الملهوف، مؤكدةً أنهم “سيعرفون حاجة واحدة أن هم سيقفون قدام ربنا سبحانه وتعالى وسيسألون عن كل هذه الدماء، وعن كل هذه الأرواح التي أزهقت ولا زالت تزهق حتى هذه اللحظة من عدو صهيوني مجرم قاتل فاجر إرهابي يمارس كل أنواع القتل على أهلنا في غزة”.
“منهج القتل”.. تفكيك استراتيجية “العدو” ورفض الصمت
يكشف الخطاب بوضوح عن منهجية “العدو” في القتل والتدمير، حيث “ضرب عرض الحائط بالقوانين والدساتير العالمية وكل ما هو إنساني”، وأصبح “القتل منهجا لهذا العدو المجرم”. إنه يمارس “إبادة جماعية، وتجويع، وقصف منشآت، ومستشفيات، ودور عبادة، وكنائس، ومساجد”، وقد “قُصفت أماكن آمنة وقُتل أطفال ومُنعوا من الماء والشراب”. هذه الحقائق الصارخة، التي أوردها أبو عبيدة، فيها إيضاح بين لنهجٍ ممنهجٍ يهدف إلى تدمير الحياة في غزة.
في هذا السياق، جاء الاتهام الصريح للأنظمة العربية الصامتة ليكون نقطة تحول في الخطاب. فـ”هذا العدو المجرم يتم دعمه بالصواريخ والسلاح وبالمال، والأمة العربية بتتفرج، والأمة العربية صامتة”. هنا يطرح أبو عبيدة تساؤلاً يدقُ ناقوس الخطر: “ألم تعلموا أن صمتكم بمثابة المشاركة القوية مع نتنياهو؟ ألم تعلموا أن هذا الصمت هو ما شجع هذا المجرم على ممارسة إجرامه على أهلنا في غزة وأهلنا في فلسطين؟”. التحليل يربط الصمت بشكلٍ مباشرٍ باستمرار جرائم “العدو”، معتبراً إياه وقوداً يشجّع على مزيدٍ من الانتهاكات.
“حجارة داوود”.. انتصار الإرادة على آلة الحرب
في ظل هذا المشهد المأساوي، يبرز خطاب أبو عبيدة ليُسلّط الضوء على ملحمة الصمود والمقاومة، ويقدم إيضاحاً مستفيضاً لفعالية الإرادة في مواجهة القوة العسكرية. فقد واجهت المقاومة “عملية العدو” المسماة “عربات جدعون” – والتي وصفها الخطاب بأنها محاولة لـ”إسقاط خرافات توراتية لإضفاء قداسة مزيفة على معركته العنصرية النازية التي لا تشبه سوى أفعال الشياطين وممارسات العصابات القذرة الجبانة” – بسلسلة عمليات “حجارة داوود”. هذا الاستلهام من قصة داوود عليه السلام في مواجهة جالوت احتوى على تجسيدٌ للإيمان الذي يمتلكه المقاومون، إيمانٌ يُسدد رميهم ويجعل “معية الله” حاضرة في كل خطوة.
النتائج الميدانية لهذه المقاومة، التي عرضها الخطاب، كانت مذهلةً، حيث “أوقعنا خلال هذه الأشهر المئات من جنود العدو بين قتيل وجريح، والآلاف من المصابين بالأمراض النفسية والصدمات”. بل وصل الأمر إلى “تزايد أعداد جنود العدو المنتحرين لهول ما يمارسون من أفعال قذرة دموية، ولعظم ما يواجهون من مقاومة محفوفة بمعية الله وجنده”. هذه الأرقام والتفاصيل فيها شهادة على صمودٍ لا يُقهر، وتحليلٌ لفعالية استراتيجية المقاومة في إلحاق الهزيمة النفسية والعسكرية بـ”العدو”.
كما تطرق الخطاب إلى “تكتيكات المقاومة وأساليبها الجديدة والمتنوعة” بعد “استخلاص العبر من أطول حرب ومواجهة في تاريخ شعبنا”. فالمجاهدون ينفذون “عمليات نوعية بطولية فريدة” باستهداف الآليات، والالتحام المباشر، وقنص الجنود، وتفجير المباني والكمائن المركبة، والاغارات على قوات “العدو”. هذه المشاهد، التي “شاهد العالم أبطالنا وهم يعتلون آليات العدو في خان يونس ويصلون للجنود المحتلين من نقطة الصفر”، تبرهن على شجاعة وإقدام غير مسبوقين، وتقدم نموذجاً عملياً لفاعلية المقاومة في قلب معادلات القوة.
معادلة النصر.. الإيمان ومعية الله
يؤكد أبو عبيدة على مبدأٍ أساسيٍّ للمقاومة، وهو “معية الله عز وجل”، التي “تسدد رمي المقاومين”. ولذلك، كانت “الله أكبر حاضره”، وكذا الآية الكريمة “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”. هذه هي الوقودٌ الحقيقي الذي يدفع المقاومين لخوض “مواجهة غير متكافئة بإيمان منقطع النظير، وبأس شديد وعزيمة لا تلين بقوة الله ومنته وتوفيقه”.
في الختام، يشدد أبو عبيدة على أن “هناك حرباً طويلة” تنتظر الجميع، لكنها حرب نتائجها محسومة بالنسبة للمقاومة: “إما نصر أو استشهاد، وفي الحالتين المقاوم منتصر”. هذه الكلمات ليست تعبيراً عن التمني، بل عن إيمانٍ عميقٍ بقضيةٍ عادلة، وبنصرٍ آتٍ لا محالة، مهما طال أمد الصراع، ومهما بلغ حجم الخذلان. إنها معادلة النصر التي يطرحها الخطاب، والتي تُبرز أن الإيمان والقوة المعنوية هما سر الصمود والتفوق، وأن “الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.