نبع غزة الذي لا ينضب.. سردية الأرض، العدالة، والمقاومة!!
نبع غزة الذي لا ينضب.. سردية الأرض، العدالة، والمقاومة!!
يمني برس | تقرير _ يحيى الربيعي
تتوالى فصول الجريمة والإبادة الجماعية على قطاع غزة، بلا هوادة أو توقف، فمنذ أن انتهك جيش الاحتلال الإسرائيلي وقف إطلاق النار في مارس الماضي، لم تهدأ طائرات الحرب ولا قذائف المدفعية، لتُشكل جدراناً من نار ودمار تحيط بالقطاع على مدار الساعة. إن هذا الاستهداف الممنهج يكشف عن طبيعة العنف الذي يمارسه الاحتلال، عنف لا يعرف الحدود ولا ينتهي، يهدف إلى محو الوجود الفلسطيني. تتجسد هذه الوحشية في قصص فردية تُدمي القلوب، وتكشف عن حجم الخسارة الذي يفوق التصور، كقصة الأب الذي فقد ابنتيه في غارة جوية واحدة، إحداهما في عيد ميلادها الثالث. يتحدث الرجل المكلوم عن كيف حفر بيديه العاريتين بين الأنقاض، باحثاً عن بقايا أطفاله، ليجدهما قد قذفتهما الانفجارات بعيداً عن منزلهما. كلماته المليئة بالوجع “لقد تحدثت إليهم، ولكنهم لم يستجيبوا” تحول قلب المستمع إلى رماد، لتترك ندوباً عميقة لا تُمحى. هذه الروايات الحميمة تكشف عن واقع قاسٍ، حيث تُباد عائلات بأكملها في لحظات، وتُشوّه أرواح الأطفال أو تُزهق، وتُحوّل أحياء بأكملها إلى مجرد ركام.
شهادات النزوح.. صرخة وجع ومعاناة لا تُصدق
تتجسد الصدمة في مشاهد لا يمكن للمرء أن ينساها: أم تصرخ بقلب ممزق على الجنود الصهاينة، راجية إياهم أن يتوقفوا قبل أن يدهسوا طفلاً مذعوراً أثناء عمليات الإجلاء القسرية. عائلات بأكملها تتجمع تحت وابل القذائف والنيران، تتشارك خوفاً ومعاناة لا يمكن وصفها، كما يروي أحد الآباء: “تقاسمنا الألم بطريقة لا يمكن وصفها” بينما كانت الحرب تقتحم عتبات بيوتهم. هذه اللقطات الموجعة تؤكد التهديد المستمر الذي يعيشه الفلسطينيون، والصدمة الجماعية التي تنهش أرواحهم. ويُروى عن الأب “طارق” كيف اضطر إلى لف جثث بناته الصغيرات في بطانيات، بعد أن امتلأت المشرحة عن آخرها، وهو تفصيل يُبرز الحجم الهائل للضحايا، والانهيار الكارثي للبنية التحتية في القطاع. هذه الأفعال، على الرغم من أنها مدمرة، إلا أنها تتحول إلى صوت موحد للمقاومة. فمجرد الصمود والتعبير عن هذه المعاناة، حتى في خضم هذا الرعب، يصبح فعلاً تحدياً علنياً، يتصدى بشكل مباشر لمحاولات المحتل لكسر الروح ومحو الوجود الفلسطيني.
يُضاف إلى ذلك صدمة النزوح المتكرر، كما في قصة الجدة البالغة من العمر 80 عاماً، التي نزحت مرتين في حياتها، وهي الآن تؤوي أحفادها في خيمة بعد أن دمر منزلها. هذه القصة تبرز الطبيعة الدورية للمعاناة الفلسطينية، والصدمة المتوارثة عبر الأجيال من النزوح، مُذكّرة بأهوال النكبة التي لم تنتهِ فصولها بعد.
المشروع الصهيوني.. خطة ممنهجة للإبادة
يُعرّف المشروع الصهيوني في جوهره بأنه يهدف إلى إنشاء ما يسمى بـ”دولة يهودية قومية عرقية”، وهو ما يستلزم حسب زعم مُنظريه وجنرالات حربه “التطهير العرقي في فلسطين”. إن هذا التأكيد يُبرز الاستمرارية التاريخية للعدوان الإسرائيلي، ليس كحوادث معزولة، بل كنمط مستمر وممنهج لا يتوقف. فتبدو عمليات “تكثيف للفظائع الصادرة عن الكيان الإسرائيلي إلى درجة أن كل فظائعه تهدد بإخفاء الفظائع التي سبقتها”، في مشهد يعكس سعياً حثيثاً لإنهاء الوجود الفلسطيني.
كما تُعدّ استراتيجية التشتيت جزءاً لا يتجزأ من هذا المشروع الإبادي. فقد أدى الهجوم الإسرائيلي الأخير على إيران إلى محو أي تغطية إعلامية للإبادة الجماعية المستمرة في غزة، وهو ما حجب بدوره الاعتداءات العنيفة وسرقة الأراضي والتطهير العرقي التي تجري في الضفة الغربية المحتلة. هذا يُسلّط الضوء على استراتيجية متعمدة لتحويل الانتباه العالمي عن القضايا الجوهرية للتطهير العرقي، وتمكين آلة الحرب من إنجاز مخططاتها في صمت مطبق.
التزام لا يتزعزع بالبقاء على الأرض
تتجسد الروح الفلسطينية في غزة في رفضها المطلق للانكسار، وتأكيدها الأبدي على البقاء والصمود. يؤكد أحد الغزاويين، البالغ من العمر 91 عاماً، والذي نجا من حروب واحتلالات إسرائيلية متعددة، في موقف يُجسّد جوهر “الصمود” ورفض نكبة ثانية، معلناً ارتباطاً أبدياً بالأرض أنه لن يغادر غزة أبداً، ويُقسم: “لا يمكننا الهجرة مرة أخرى”، ويضيف: “سنبقى على أرضنا حتى الموت”. يتجلى التحدي الجماعي في تأكيد أبناء غزة مراراً وتكراراً أنهم “لن يهزموا أو يطردوا، مهما كانت وحشية الهجوم”. وفي تأكيد جماعي يُعزّز الإرادة المشتركة لمقاومة التهجير، يقول مسن آخر: “إن حبنا لوطننا فلسطين… ورفضنا للهجرة منه دفعنا إلى الثبات”، ويضيف: “نحن أصحاب هذه الأرض… ولن نتركها أبداً”.
تتجاوز المقاومة في غزة حدود النضال المسلح لتشمل أبعاداً أعمق، لتوسع تعريف المقاومة ليشمل أفعال الصمود الاجتماعي والنفسي، ويُظهر الطبيعة المتعددة الأوجه للمقاومة الفلسطينية. فهذا رجل يبلغ من العمر 61 عاماً، بعد أن خسر كل شيء، يقضي أيامه في تنظيم الألعاب للأطفال في مخيمات النازحين، ويقول: “إذا كانت المقاومة تدافع عنا بالسلاح، فعلينا أن نقاوم أيضاً بالثبات على أرضنا”. إنها تمتد إلى ما وراء الصراع المسلح لتشمل الثبات الثقافي والاجتماعي والنفسي. فأفعال مثل الحفاظ على رفاهية المجتمع، وتعليم الأطفال، وتقديم الرعاية الطبية، تصبح مكونات حيوية للصمود، وتحوّل أعمال البقاء العادية إلى بيانات سياسية عميقة تُحبط بشكل مباشر أهداف العدو المتمثلة في الإبادة وإضعاف الروح المعنوية.
الدفاع عن الهوية التعليمية والصحة كأعمال مقاومة
يُعدّ مفهوم “الإبادة التعليمية” تعبيراً عن التدمير الشامل للنظام التعليمي في غزة. هذا التدمير يهدف إلى محو الهوية والتاريخ والقدرة الفكرية المستقبلية للفلسطينيين. إن حقيقة أن هذا التدمير “مُبشّراً به ومُحتفى به قبل عقد من الزمان” تكشف عن عقيدة إجرامية راسخة. ففي كتابها الصادر عام 2019 بعنوان “الطفولة المسجونة وسياسات نزع الطفولة”، وصفت شلهوب كيفوركيان كيف كان المتظاهرون المتعصبون من أهل القدس يحتفلون بالفعل في تل أبيب، أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2014، بإبادة أطفال غزة. كانت هتافاتهم تُقشعر لها الأبدان: “في غزة لا دراسة / لا أطفال هناك / لا مدرسة غداً / لا أطفال في غزة! أوليه! / غزة مقبرة”. هذه الهتافات الهمجية التي نادت “لتحترق قراهم” أصبحت واقعاً مريراً تُرتكب فصوله بشكل ممنهج منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، من إبادة جماعية و”إبادة تعليمية”، أي تدمير شامل للنظام التعليمي في غزة، كان مُبشّراً به ومُحتفى به قبل عقد من الزمان. لقد أصبحت أحلام الإبادة الجماعية واقعاً مؤلماً.
ولكن، ووسط الدمار، تتجلى بذور التحدي في قصص التجدد التي تُبرز الأهمية الاستراتيجية للحفاظ على المعرفة والأجيال القادمة. معلمة شابة فقدت منزلها ومركزها التعليمي الخاص جراء القصف الإسرائيلي، بدأت بتدريس أكثر من 200 طفل في خيمة للنازحين، مُعلنة أن “التعليم يظل السلاح الأقوى للمقاومة في غزة”. كما أن صيدلانياً دمرت صيدليتاه، يفتح عيادة مؤقتة في مخيم للنازحين لعلاج من لا يملكون شيئاً. حلمه لا يقتصر على إعادة بناء أعماله، بل يمتد إلى متابعة دراساته العليا، ويرى أن إهداء الشفاء للمرضى والجرحى واجبه ومستقبله. هذا المثال يُجسّد الالتزام برفاهية المجتمع والنمو الفكري رغم الخسارة الشخصية الهائلة.
حتى في براءة الطفولة، يتجلى التحدي. فسعيد، صبي يبلغ من العمر 12 عاماً، يعمل على تشغيل الترامبولين المتواضع في ملجأ للأونروا لإدخال الفرحة إلى قلوب الأطفال النازحين الآخرين، حتى وهو يخشى القنابل الإسرائيلية مع كل نفس يتنفسه. قصته “صورة للطفولة التي قاطعتها الحرب”، تُظهر صمود الطفولة والرغبة الإنسانية الفطرية في الفرح والحياة الطبيعية وسط الرعب.
هذه التعبيرات عن الأمل هي “أفعال تحدٍّ” تستخدم الأمل والأحلام كسلاح. فبرفضهم التخلي عن أحلامهم في إعادة البناء والتعليم والمستقبل، يحرم أهل غزة مضطهديهم من نصرٍ نهائي على روحهم. ناهيك عن تحويل حالة المرونة الداخلية إلى إجراء سياسي استراتيجي مضاد، ويُظهر كيف أن الحفاظ على الأمل، حتى وسط الأنقاض، يصبح تحدياً قوياً للبعد النفسي للاحتلال والتطهير العرقي.
درع العربدة يتغذى بالدعم الأمريكي والخيانة الإقليمية
تُشكل القوة المطلقة، والغطاء الدبلوماسي، والوصول غير المحدود إلى الأسلحة الفتاكة الممنوحة للكيان من الولايات المتحدة ومعظم الحكومات الغربية، عوامل تمكين مباشرة لعدوانها. إن الإفلات من العقاب الذي يمنحه حلفاؤها الرئيسيون للكيان لا يقتصر على فشلها في وقف العنف؛ بل يُهيئ فعلياً الظروف لتفاقمه. كما أن الإفلات من العقاب هو الآخر آلية تمكين نشطة. إنه يُغذي بشكل مباشر تصعيد العنف الإبادي من خلال تشجيع الجناة وإزالة الخطوط الحمراء، مما يخلق حلقة مفرغة حيث يُقابل العدوان بالحصانة الدبلوماسية والمساعدات العسكرية.
لقد تكرر “كرنفال العنف” غير المقيد الذي شوهد في القدس، الآن “بتأثير مميت في غزة”، حيث يتم تقليص عدد السكان الفخورين والصامدين عمداً إلى حشد يائس وجائع، يتم حشرهم في حظائر الماشية في مسالخ ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” التي من المفترض أنها تعمل كمحطات تغذية للغزاويين ولكنهم قتلهم أثناء بحثهم عن الطعام. هذا هو الوصف الحي والمفترض أن يُبرز الأثر اللاإنساني للقوة غير المقيدة. علاوة على ذلك، تُوفر الحروب “غطاءً مناسباً للتطهير العرقي والإبادة”، على اعتبار أن العقيدة العسكرية تقول أن العمليات العسكرية هي عامل التحول إلى فرص استراتيجية للتغيير الديموغرافي.
يُضاف إلى ذلك بيئة إقليمية متواطئة، تخلت فيها الدول العربية والإسلامية عن القضية الفلسطينية من باب المصلحة الذاتية أو بسبب الترهيب من جانب الكيان والولايات المتحدة. وهو ما يُشير إلى نمط من التشتيت الاستراتيجي، حيث ينشغل الفاعلون الإقليميون والدوليون بقضايا ثانوية، مما يسمح للمشروع الابادي بالاستمرار دون عوائق. هذا يُبرز الوظيفة الاستراتيجية لـ”الخيانة” الإقليمية والتشتيت الجيوسياسي. فحياد الضغوط المضادة المحتملة من الدول المجاورة، وتجزئة التركيز العالمي، يخلقان بيئة مُتيحة للمشروع الصهيوني لمواصلة هدفه في التطهير العرقي إلى حد كبير دون رادع.
الصمود كأقصى درجات المقاومة
إن صمود أهل غزة وتحديهم أمام العربدة الصهيوأمريكية في المنطقة والعالم أجمع له تداعيات عميقة على مستقبل السياسة الدولية عامة. هذا يضع غزة كنقطة محورية للمقاومة ضد الهيمنة العالمية. تكشف الهجمات الأخيرة على لبنان وإيران وسوريا عن رئيس وزراء الكيان، الغارق في غرورٍ جامح، يستسلم لخيالٍ عبثيٍّ وجنونيٍّ مفاده أن القدس، بل والشرق الأوسط بأكمله، قد يُصبح مُغطّىً بالأزرق والأبيض. هذا يُظهر الطموحات التوسعية التي يُغذيها الإفلات من العقاب. إن صمود الغزيين، رغم الصعاب الهائلة، يُعدّ رواية مضادة قوية لهياكل القوة المهيمنة، ويُلهم حركات المقاومة في جميع أنحاء العالم.
إن ما يجعل قصص الصمود في غزة مؤثرة إلى هذا الحد ليس النثر الأدبي المصقول، بل أصالة الأصوات وإلحاحها. يُعدّ الصمود رفضاً مباشراً للتهجير القسري، وتأكيداً على حق العودة. فالتأكيد المتكرر “لن يهزموا أو يطردوا” و”لن نتركها أبداً” يُبرز الصمود كرفض قاطع لأي نكبة ثانية. كما يُوضح الرجل البالغ من العمر 61 عاماً أن الصمود هو مقاومة فاعلة، بقوله في تصوير واضح على أنه عمل مقاومة واعٍ ونشط، وليس مجرد تحمل سلبي: “إذا كانت المقاومة تدافع عنا بالسلاح، فعلينا أن نقاوم أيضاً بالثبات على أرضنا”.
إن صمود الفلسطينيين، لا سيما في غزة، يُقدم كعامل رئيسي في خلق “آيات الإحباط للمشروع الصهيوني”. فرفضهم المغادرة يُقوّض بشكل مباشر الأهداف الديموغرافية للتطهير العرقي. كما يبرز الصمود كفشل استراتيجي طويل الأمد للمشروع الإبادي. فعلى الرغم من القوة العسكرية والسياسية الهائلة، تواجه الأهداف النهائية للمشروع الصهيوني (التطهير العرقي الكامل، السيطرة المطلقة، إبادة الهوية الفلسطينية) إحباطاً مستمراً، لأن الشعب يرفض أن يُباد، وبالتالي يحرم المحتل من الانتصار النهائي على روحه وإرادته.
الفجر الحتمي: إرث غزة الدائم من التحدي
إن نضالات العودة إلى المدارس، وإعادة بناء الأحياء، والوظائف، وحفلات الزفاف للأبناء الناجين، ومتابعة التعليم العالي، ليست “ساذجة” بقدر ما أنها “أفعال تحدٍّ”. بل إن هذا يُشدد على صحة فرضية أن الزراعة المتعمدة والتعبير عن الأمل والتطلعات المستقبلية يعد فعلاً استراتيجياً في الحرب النفسية ضد نية المحتل في كسر عزائم التمسك بالبقاء. فمن خلال التمسك برؤية للمستقبل، حتى وسط الأنقاض، يتصدى المظلومون بشكل مباشر لنية المحتل في كسر إرادتهم التمسك بالحق والثبات عليه.
إن “آيات الإحباط للمشروع الصهيوني”، هي نتيجة مباشرة للصمود الفلسطيني ورفضهم للتهجير أو إضعاف الروح المعنوية. فالارتباط الثابت بالأرض والطبيعة المتعددة الأوجه لمقاومتهم – من النضال المسلح إلى الحفاظ على الثقافة وصيانة الأمل – تُشكل التحدي الأقصى لطموحات المحتل. كما يُعزّز الفشل الاستراتيجي طويل الأمد للمشروع الإبادي. إن القوة الكامنة في الصمود الروحي والجسدي للمظلومين، ورفضهم الاستسلام، يُحبط بشكل أساسي طموحات المحتل الشاملة، مُبرهناً أن القوة الغاشمة لا تستطيع قهر إرادة لا تلين، متجذرة في الأرض والعدالة. وعلى الرغم من الوحشية المستمرة، تظل روح غزة غير مقهورة. إن النضال من أجل العدالة والتحرير، الذي يُغذيه الصمود الذي لا يتزعزع، سينتصر في النهاية، مُبشّراً بـ”الفجر الحتمي” لفلسطين حرة.