الرسول محمد.. القائد الحكيم والمخطط الاستراتيجي
إن فهم شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتطلب تجاوز السرد التاريخي التقليدي الذي غالبًا ما يركز على المعجزات والأحداث الخارقة، إلى تحليل أعمق لشخصيته كقائد ومخطط استراتيجي، فكثير من الروايات التاريخية، مع أهميتها، قدّمت صورة قد توحي بأن انتصاراته كانت وليدة تدخل إلهي مباشر فقط، دون إبراز كافٍ لحكمته وبصيرته وتخطيطه الدقيق.
يمني برس | تقرير خاص
إبعاد شخصية الرسول عن التحريفات السطحية
ركزت العديد من السير على تواريخ الغزوات وأعداد المقاتلين ونتائج المعارك، وهو سرد ضروري، لكنه غير كافٍ لفهم عبقرية النبي كقائد، هذا الطرح المجتزأ قد يصور النبي وكأنه شخصية تتحرك بعفوية أو أن انتصاراته كانت مجرد معجزات، متجاهلاً التخطيط الدقيق والبصيرة النافذة التي كانت وراء قراراته.
وهو ماتناوله الأستاذ يحيى قاسم أبو عواضة في كتاب “مع الرسول والرسالة” بأن هذه النظرة السطحية تهدف إلى إبعاد النبي عن كونه قدوة عملية يمكن الاقتداء بها في التخطيط والإدارة، ففهم حركة الرسول على أنها مجرد إلهام غيبي يجعل من الصعب على الأمة استلهام خططه وحكمته كنموذج عملي قابل للتطبيق.
الرسول كنموذج للقائد الحكيم في القرآن
يقدم القرآن الكريم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كقائد عظيم يتخذ قراراته بناءً على هدى من الله ورؤية واضحة. الآية الكريمة في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، تكشف عن أبعاد شخصيته القيادية:
- الرحمة واللين: وهي أساس التفاف الناس حوله.
- العفو والاستغفار: منهج إصلاحي قائم على الاحتواء لا الانتقام.
- الشورى: إشراك أصحابه في اتخاذ القرار، مما يعزز وحدتهم وشعورهم بالمسؤولية.
- الحزم والعزم: بعد الشورى، يأتي القرار الحاسم الذي لا تردد فيه، متبوعًا بالتوكل على الله.
هذه الآية وحدها ترسم ملامح قائد متوازن يجمع بين الحكمة الإنسانية والتوكل الإيماني.
الحكمة في الإدارة والقيادة العملية
لم تكن قيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عسكرية فحسب، بل كانت مشروعًا حضاريًا شاملاً. وتجلت حكمته في عدة جوانب:
- في اختيار مواقع المعارك: كان يحلل العوامل الجغرافية والسياسية والاجتماعية، ففي غزوة بدر، كانت مشورته لأصحابه واختيار موقع الماء نقطة تحول استراتيجية، وفي غزوة الخندق، كان ابتكار حفر الخندق بناءً على مشورة سلمان الفارسي دليلاً على انفتاحه على الأفكار الجديدة وتطوير أساليب القتال.
- في اختيار القادة: كان معياره الكفاءة والإيمان، وليس القرابة أو المصالح، فعندما ولى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه كبار الصحابة، كان يرسخ مبدأ أن الكفاءة هي الأساس.
- في معالجة الأخطاء: كان يتعامل بمنهج إصلاحي لا انتقامي، فيحول الهزيمة إلى درس، والنصر إلى فرصة لتثبيت المبادئ، بعد غزوة أحد، ورغم ما حدث من مخالفة، لم يعنف أصحابه بل عالج الموقف بحكمة ليعلمهم أهمية الطاعة في الظروف الصعبة.
رفض الصورة الخاطئة عن النبي
إن تصوير الرسول كشخصية بسيطة تحتاج دائمًا لتوجيه الآخرين هو ظلم كبير لشخصيته الفذة، فالروايات التي تظهره كأنه لا يعرف التصرف في أمور الحرب أو السياسة حتى يأتيه صحابي ليوجهه، تتعارض مع كونه القائد الذي أرسى دعائم دولة قوية في فترة وجيزة.
ومثل هذه الروايات تهدف إلى إبعاد النبي عن موقعه كقدوة عملية، وجعل حركته تبدو كأنها سلسلة من المعجزات غير القابلة للتكرار، بدلاً من كونها نموذجًا للتخطيط والحكمة يمكن للأمة أن تتبعه.
الدروس المستفادة للأمة اليوم
إن دراسة سيرة الرسول كقائد ومخطط تقدم للأمة اليوم دروسًا حيوية:
- الإسلام كمشروع عمل: إدراك أن الرسول كان يخطط وينظم ويحلل الواقع بعمق، يجعل المسلمين يفهمون أن الإسلام ليس مجرد طقوس، بل هو مشروع عمل متواصل يتطلب التفكير والتخطيط.
- منهجية التغيير: استمرار الأمة على نهج النبي يعني اعتماد نفس الأسلوب: التفكير الواعي، التخطيط المنهجي، والتوكل على الله مع الأخذ بالأسباب.
- استلهام العقلية القيادية: الأمة اليوم بحاجة ماسة لاستلهام عقلية النبي القيادية لتجاوز حالة الفوضى والتبعية، وتحقيق النهضة والعزة التي أرادها الله لها.
خاتمة
إن إعادة قراءة السيرة النبوية بعيون تبحث عن القائد والمخطط والمعلم، لا تَقِلُّ أهمية عن دراستها كمصدر للتشريع والأخلاق، فالأمة التي تواجه تحديات معقدة، تجد في سيرة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم منهجًا متكاملاً للنهضة، يجمع بين الإيمان العميق والتخطيط المحكم، وبين الرحمة والحزم، وبين التوكل على الله والأخذ بأسباب القوة.