المنبر الاعلامي الحر

الرسول الرحمة بين القرآن الكريم وفتاوى التكفيريين

إعداد الدكتور / حمود عبدالله الأهنومي

مفهوم الرحمة في القرآن

الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ولأنها عرَض لا يُتَصوّر حلولُه في الله عز وجل، فقد استُعْمِلت مجازا مشهورا في الإحسان المجرّد الذي تفضّل الله به على عبيده في الأرض، في مظاهر مختلفة تظهر فيها رحموتيته عز وجل.

يبين القرآن الكريم في آيات كثيرة أبعادَ رحمة الله وتجلياتها، ومظاهرها، ومن خلال تتبع موارد هذه الرحمة في القرآن والمعاني الخاصة التي جاءت فيها نجد أنها جاءت بمعنى النجاة من الغرق، والأمن من الاختلاف، والانتصار على النفس الأمارة بالسوء، والوقاية من السيئات، وصرف العذاب، ودخول الجنة، وتصريف النعم، والنبوة، وبلوغ الإنسان أشده، واستخراج الكنز، وهبة الله الأولاد، والمحبة القلبية الناشئة بين الزوجين، والغيث، والنجاة من الأعداء، وخلق الليل للسكنى، والنهار لابتغاء الفضل، ورفع البلاء، وغير ذلك، مما يشير إلى احترام النفس البشرية وحفظها وصيانتها وتشريع الشرائع التي تحفظ كرامتها وعصمتها.

إن (الرحمة) مصطلحٌ واسعٌ لمجالات الإحسان الواسعة لكل شيء، من الله المتفضِّل على عبيدِه، يقول تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتُبُها للذين يتقون ويؤتون الزكاة”، ومن أسمائه الحسنى عز وجل: (الرحمن) و(الرحيم)، وقد تجلّت رحمانيته في أعظم مظاهرها حين أرسل عز وجل عبده ونبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، رحمة للبشرية التي غرقت في أهوائها، وتاهت في شهواتها.

الرحمة وواقع التكفير

يشاهد المرء اليوم هذه الحركات التكفيرية التي ابتلي بكثرتها أهل هذا الزمان، والتي تدّعي الانتساب إلى سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتدّعي أنها تسلك منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما كان تشدُّد أحدهم أكثر ضد غيره من المسلمين، كلما وصفوه بأنه “صلْبٌ في السنة”، و”مخشوشنٌ” فيها، إن من المعروف أن هناك انتسابا تضليليا يُكاد به الإسلامُ تحت مظلة اتباع السنة المحمدية، وجعلها مرادفة للعنف، والقتل، والاغتيال، وهذا غير صحيح ألبتة، علما أن هناك مذاهب كثيرة تنتمي لهذا المصطلح لكنها لا تمت بصلة إلى العنف ولا إلى التكفير.

إذن نتحدث هنا عن جماعات تحاول إظهار الإسلام وكأنه دين العنف والقتل والجبروت، تظهره وكأنه دين القسوة والشدة والذبح، والتنكيل، وتصِرُّ على تصوير سلوكها وممارساتها وكأنها الدين الحق، الخطورة في الادعاء الحصري لتمثيل هذا الدين من قبل هؤلاء الذين جنوا على الإسلام أكثر مما جنى عليه أعداؤه.

هذه القساوة والشدة ليست وليدة اليوم وليست من بنات أفكار التكفيريين اليوم، بل يتكئون فيها على ركام هائل من الفكر العنيف الغليظ الذي مرت له تجارب سيئة في تاريخ المسلمين، على أنه يجب التنبيه أننا حين نعرض لبعض القضايا التاريخية والتي وقع فيها الخلاف والتكفير فإن الخطورة تكمن في كون هذه الجماعات التكفيرية المعاصرة تريد إحياء تلك القضايا اليوم وتريد إحياء مدلولها في واقعنا اليوم، هم يكفرون مثلا من يسمونهم الجهمية وفي نفس الوقت يريدون تلبيس هذه التهمة بإحدى فرق الإسلام اليوم، هذه هي الخطورة، ولو أنهم مثلا كفروا طائفة ما أو مذهبا ما، وفي نفس الوقت يقولون إن هذه الطائفة لم تعد موجودة لكان الأمر هينا، اليوم مثلا يستدلون على كفر المعتزلة أو من يقول ببعض أفكارهم كإنكار الرؤية بفتاوى وأقوالٍ يروونها هم عن بعض سلفهم وشيوخهم، هم يحشرون فتاوى تكفيرية تحرِّض على العنف والقتل وتناقِضُ الرحمة التي أُرْسِلَ بها نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ضد المخالفين في قضايا تتعلق بالعقيدة، ويروونها لأئمةٍ مشاهير، والخطورة كما قلت أنهم يريدون أن يوجِدوا لهذه الفتاوى واقعا ومدلولا في عصرنا اليوم، ولا يزالون يصدِّرون فتاواهم التكفيرية المنافية لمنهج الرسول الرحمة ضد أغلب فئات المسلمين، كلها تناقض تمام المناقضة منهج الرسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم.

لا زال العالم يشاهد مآسي ووحشيات وجرائم الذبح والنحر والتفجيرات الانتحارية والاعتداء بغير تمييز بين محارب وغير محارب ولا تمييز لطفل ولا امرأة ولا شيخ ولا رجل دين، وللأسف فإن القنوات الإعلامية الكبرى في العالم تكون في العادة هي السباقة لنشر هذه الفظائع في المجتمعات الغربية والتي يرتكبها التكفيريون باسم الإسلام وباسم النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغرض تصوير الإسلام والمسلمين على هذا النحو، وعلى أنه الطابع العام لهذه الأمة.

ما يحصل اليوم من حروب بين تيارات الفكر التكفيري (جبهة النصرة وداعش)(داعش ولواء شيخ الإسلام ابن تيمية)(داعش والجيش الحر)، أيضا يجيب على من يقول إن هناك رحمة لكنهم يصرِّفونها بينهم، لكن الحقيقة أنه لا يوجد رحمة مطلقا في قواميس تدينهم، ولا في أخلاقهم، ولا في ممارساتهم، ولا في مصفوفة قيمهم، إنهم خلو عنها، ولعله يصح القول أن المرء حين يقبل بأطروحات الفكر التكفيري فإنه بالضرورة يكون قد تخلَّى عن المعاني والقيم الجميلة في الإسلام وفي الإنسانية.

الخطورة هي ما أسميه (تسويق التكفير) وجعله ثقافة شعبية على القنوات والمنابر وفي الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، هذا يؤدي إلى وضع لغم مجتمعي خطير بيد أطفال لا بد أن يعبثوا به بشكل مريع، ربما كان المكفرون الأوائل يتركون هذا الأمر في دوائرهم وفي نخبهم.

التكفير التاريخي الذي يتكرر اليوم:

لقد أضاع التكفيرُ مفهوم الرحمة من تاريخ المسلمين بشكل فظيع، بحيث يتساءل الناس أين هي الرحمة في هؤلاء الذين ورثوا من أنزل الله عليه قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لا يمكن أن يجد المرء شيئا اسمه الرحمة في طريقة تعامل هؤلاء، وأمامي عشرات النقول الموثَّقة من القديم والحديث وفيها فتاوى تكفيرية وتحرِّض على القتل والعنف ضد العزّل من الناس الذين لا سلاح لهم إلا ما يحملونه من أفكار، ومن الطريف أن هذه الجماعات التكفيرية التي تحرِّض على العنف والقتل ضد المجتمع والفرد الذين ليس بيدهم ما يدافعون عنه، بينما في العادة ترسم علاقة تناغمية منسجمة مع الحاكم ولو كان ظالما فاجرا متسلطا، وكثيرا ما استعانت به لضرب خصومها الذين لا حول لهم ولا قوة.

سأكتفي ببعض النماذج، نموذج من القرون الثلاثة الأولى، ونموذج من القرون الوسطى، ونموذج من العصر الحاضر، على أن هذه النماذج للأسف تنتمي إلى خط فكري واحد، هذا الخط هو الذي يتبنى الفتنة في البلدان الإسلامية، ويحيي هذا الفكر التكفيري على أرض الواقع.

التكفير في القرون الثلاثة الأولى:

هناك نموذج صارخ في التكفير وهو تكفير الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت150هـ)، وهو فقيه الإسلام الذي أقر بفضله وعلمه جميع الأمة. لا يزال التكفيريون اليوم أو طائفة كبيرة منهم يروّجون لتكفيره ويطبعون الكتب التي نقلته.

سأنقل من مصدر واحد فقط، وهو كتاب السنة للمحدِّث عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل (ت290هـ)، وفيه غنية عما سواه، وبالمناسبة فالكتاب اليوم من مصادر العقيدة المعتمدة لهذه الحركات التكفيرية، وإذا كانت هذه جرأتهم على الإمام أبي حنيفة وهو من هو علما وفضلا وكثرة أتباع في الإسلام فما الحال بعامة المسلمين وضعفائهم؟!!

وهذا ملخَّصٌ لما ورد من تكفيرٍ له:  

روى عن أحمد بن حنبل أنه قال: يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه. وعن أبي يوسف أنه مات جهميا، وأنه كان يعمل بأقوال جهم تأتيه من خراسان. وأنه كان يرى أن القرآن مخلوق وأنه أول من قال به. وأنه كافر. زنديق. ينقض عرى الإسلام عروة عروة. وما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه. وأنه أبو الخطايا. وأنه يكيد الدين. وأنه نبطي غير عربي. وأن الخمَّارين خير من أتباعه. وأن الحنفية أشد على المسلمين من اللصوص. وأنه سيكبُّه الله في النار. وأنه أبو جيفة. وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة. وأن استقضاءَ الحنفية على بلدٍ أشدُّ على الأمة من ظهور الدجال. وأنه ضيّع الأصول. ولو كان خطؤه موزَّعا على الأمة لوسعهم خطئا. وأن يجب اعتزاله كالأجرب المعدي بجربه. وأنه ترَك الدينَ. وأن بعض فتاواه تشبه فتاوى اليهود. وأنه وأصحابه شرّ الطوائف جميعا.. وأنه لم يؤت الرفق في دينه. وأن الله ضرب على قبره طاقا من النار. وأنه ما أصاب قط. وأن أصحابه استتابوه من الكفر مرتين أو ثلاثا. وأن بعض العلماء حمد الله على وفاته. وأنه استتيب من كلام الزنادقة مرارا. وأن مذهب الحنفية هو رد حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه كان يرى شرب المسكر وأكل لحم الخنزير وأنه كان فاسدا. وأن بعض العلماء يرون جواز لعنه. وأنه كان أجرأ الناس على دين الله. وأنه يرى أن إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد، وأن حماد بن سلمة كان يقول: إني لأرجو أن يدخله الله نار جهنم، وأنه مارق.

ويروون عن ابن المبارك أنه قال: احتملنا له كذا وكذا كثيرا من العيوب فلما قال بالخروج على الظالم لم نحتملها له.

ويبدو أن وراء قائمة هذه الاتهامات الطويلة والعنيفة والتكفيرية نفَسا سياسيا، ومطلبا لبعض الحكام الذين ضاقوا ذرعا بمواقفه رضي الله عنه، ولهذا وظفوا تكفير هؤلاء وكرههم لأبي حنيفة وسمحوا له بالظهور؛ حيث أشارت كثير من الروايات في كتاب السنة نفسه أنهم احتملوا له كل مخالفة، ولكن لمّا قال بالخروج على الظالم لم يحتملوها له، ورووا عن كبارهم أنهم نقموا عليه أنه فضّل أحدهم – إذ خرج مجاهدا مع الإمام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (استشهد 145هـ) في البصرة – على أخيه الذي بقي يطلب الحديث[1].

ولكم أن تتصوروا حجم الكارثة التكفيرية التي أذيعت باسم السنة النبوية، وتوارثتها الأجيال على أنها دين الإسلام، لو عاد الإمام أبو حنيفة إلى واقعنا اليوم، أيستطيع أن يدخل إلى السعودية الوهابية لأداء الحج أو العمرة، وهم يتحدثون عنه بهذه اللغة التكفيرية في مناهجهم؟! ألا يحتمل أن يتبرّع أحد طلاب هذه المدرسة السلفية الغالية والتكفيرية لقتله تقربا إلى الله تعالى كما فعلوا بالشيخ الدكتور محمد رمضان البوطي أو بشيخنا الدكتور شهيد المنبر المرتضى المحطوري وصحبه الشهداء الأكرمين؟!

إذا كان هذا وضع الإمام أبي حنيفة فكيف بغيره من الناس. هل يمكن أن يمثّل هذا الفكر الذي يتبناه اليوم كثْرٌ مظهرا من مظاهر رحمة الله على العالمين، التي ابتعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بها ومن أجلها، هل سترضى رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتفوهوا بهذا في عالِمٍ ملأت فضائله الآفاق؟!.

ونقل الشيخ ابن تيمية تكفيرا كثيرا وقساوة عارمة وغلظة على المسلمين شديدة في كتابه الصارم المسلول، عن:

-الإمام المحدث أحمد بن يونس (معاصر للإمام ابن حنبل): (لو أن يهودياً ذبح شاة، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي، ولم آكل ذبيحة الرافضي؛ لأنه مرتد عن الإسلام).

-عبد الله بن إدريس (من أهل القرن الثالث الهجري) من أعيان أئمة الكوفة: ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم. أي أن (رافضيته) المزعومة تُسْقِط حقَّه المدني في شفعة المبيع الذي له أحد أسباب الشفعة فيه.

– قال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة : و الله إن قتلك لقربة إلى الله و ما أمتنع من ذلك إلا بالجواز، فيتلطّف معه هذا المسمى بالرافضي، ويقول: رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح!! قال: لا و الله ما هو بالمزاح ولكنه الجد، لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم[2].

أتساءل فقط هل يوجد هذا في الكتاب أو في السنة الصحيحة المجمع عليها أن عقوبة من يسمونه بالرافضي هي قطع الأيدي والأرجل. هل هذا يمثّل الرحمة التي جاء بها ومن أجلها الرسول الرحمة؟!!

لا يكفّرون فقط بل ويحضون على العنف والقتل:

-قال الإمام المحدث عبد الرحمن بن مهدي البصري (ت198هـ): من زعم أن الله عز و جل لم يكلِّم موسى صلوات الله عليه يستتاب فان تاب وإلا ضربت عنقه.  وعن جماعة من يسمونهم الجهمية، فقال: يستتابون فإن تابوا وإلا ضُرِبت أعناقهم[3]. وهم بهذا يقصدون من يتأوّلُ تكليمه له بأنه خلق الصوت في الشجرة، وأنه وصف بالتكليم مجازا لتنزهه عن شبه المخلوقات وعن اللهوات والفم والآلات، وهم من يسمونهم بالجهمية. وقد ورد تعريف الجهمية عند التكفيريين اليوم بأنهم نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق (أي محدث)، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وأن محمَّداً لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة، والمتفلسفة[4]. ويدخل تحت هذه التهمة الملفّقة الزيدية والإمامية والمعتزلة والإباضية.

-قال وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي (ت197هـ): أستتيب الجهمي فإن تاب وإلا قتلتُه[5]. وهذا يشير إلى أنهم لا ينتظرون الوالي أو الحاكم بل سينفِّذون القتلَ هم بأيديهم. وقال: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أنه محدث، ومن زعم أنه محدث فقد كفر، وقال أيضا: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدَث يستتاب!! فان تاب وإلا ضربت رقبته!![6]. ولا أدري ماذا يفعلون بمن يصف القرآن بكونه (محدثا) (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث). وهنا يتبين أنهم سوف لن ينتظروا الحكم بعقوبة المخالف من الحاكم الشرعي، بل هم سينفذون العقوبة التي ترشدهم إليها البغضاء والإحنة المذهبية.

– عن سفيان بن عيينة (ت198هـ)، قال: من قال: القرآن مخلوق كان محتاجا أن يُصْلَب على ذباب يعني جبل. ويقول سفيان أيضا: يقول من زعم أن قول الله عزوجل: (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) مخلوق فهو كافر زنديق حلال الدم[7].

– وسئل معتمر بن سليمان (ت187هـ)، عن إمامٍ لقومٍ يقول: القرآن مخلوق، هل أصلي خلفه؟ فقال: ينبغي أن تضرب عنقه[8].

-كفروا المعتزلي بشر المريسي (218هـ) من أئمة المعتزلة، وأفتوا بقتله، وحرّضوا هارون الرشيد العباسي، قال شبابة بن سوار: اجتمع رأيي ورأي أبي النضر هاشم بن قاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسي كافر جاحد، نرى أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهذا ما حمل الرشيد لأن يتوعّده بالقتل، فقال: بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق لله، علي إن أظفرني به إلا قتلته قتلة ما قتلتها أحدا قط[9]. وهذا يشير إلى استخدامهم السلطات ضد خصومهم الفكريين بشكل فج، والتفنن في قتلهم، بقتلات لم تعرف من قبل.

التكفير في القرون الوسطى

أحيى الشيخ ابن تيمية في القرن الثامن الهجري تيارَ التجسيم والتكفير داخل المذهب الحنبلي، وكتب كتبا كثيرة، وله إنتاج غزير، وقد ضمّنه تكفيرا، وتضليلا لطوائف ومذاهب الأمة، وقد تقدم ما نقله في كتابه (الصارم المسلول). وله مواقف حادة ومتطرفة وتكفيرية ضد الصوفية والشيعة والمنطقيين والكيميائيين والفلاسفة.

ورث حِدَّته وتكفيره تلامذتُه ومنهم ابن القيم الجوزية، وابن كثير الدمشقي، الذي حكم بأن إراقة دم من يرى تقديمَ عليٍّ في الخلافة “مثل إراقة المدام”، يقول: “ولو كان الأمر كما زعموا لما ردّ ذلك أحدٌ من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتئتوا عليه فيقدِّموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم الى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول صلى الله عليه و سلم، ومضادّتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع رِبقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام[10]”.

في عصور الانحطاط جُعِل (سب الصحابة) مشنقة الخصوم الذين يراد لهم الموت بدون رحمة، وشارك بعض هؤلاء العلماء التكفيريين في قتل الناس بطريقة وحشية، فهناك مثلا الحِلِّي المسمى علي بن أبي الفضل، والذي يُدْعَى ابن كثير أيضا، والذي تحيّنه القدر إلى دمشق المملوكية في سنة756هـ/ 1354م؛ ليجد ابن كثير الدمشقي هذا، تلميذ ابن تيمية، فحرّض عليه عامة الناس بحجة أنه يسب الصحابة، فأخذه العامة إلى القاضي؛ وجاء ابن كثير الخصم المحرض والمفتي التكفيري والإعلامي المؤرخ الذين ينقل الحادثة، والذي لا يرضيه إلا سفك الدم، فقال متباهيا: إنه هو الذي لحقه إلى مجلس القضاة ليناقشه في ما حدث بين الصحابة، وبالطبع فقد أسرع وأسرف القاضي المالكي بالحكم بإراقة دمه، بينما توقَّف القضاة الثلاثة الآخرون في الأمر، هنا أُخِذَ ابن كثير (الضحية) كما يخبر الوكيل الحصري ابن كثير (المفتي التكفيري والخصم) بسرعةٍ فائقة لتضرَبَ عنقُه تحت القلعة، ثم يروي ابن كثير المفتي والآلة الإعلامية المحرِّضة بكل أريحية أن العامة أخذوا جثته وحرّقوها، وطافوا برأسه في الأسواق وهم يقولون هذا جزاءُ من سب أصحاب رسول الله[11].

التكفير في العصر الحاضر:

حمل الوهابيون في هذا العصر لواء التكفير، ولا تجد بلدا من البلدان إلا وأهله يعانون من غلوائهم في القسوة والغلظة، وإثارة الفتن والنعرات، وشدة العداء والكره والبغض للمجتمعات، ومن بوابة التكفير وعبر الفساطيط ذات الأبواب المتداخلة يتحرّك التكفيريون متنقِّلين بين التكفير والتفجير، بخلفية عقَدِية تدعوهم إلى كره المجتمعات وبغضها والعزم على الشرِّ بها.

هذه نماذج فتاوى تذكِّر بتلك النفوس المولَعة بالدماء، والتي ليس فيها من رحمة الإسلام ونبيه الكريم شيء.

-هذا الشيخ ابن باز مفتي المملكة يعتبر أن الشيعة مشركون شركا أكبر، حيث يقول في إحدى فتاواه: وأفيدكم بأن الشيعة فرق كثيرة، وكل فرقة لديها أنواع من البدع، وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الإثني عشرية؛ لكثرة الدعاة إليها، ولما فيها من الشرك الأكبر كالاستغاثة بأهل البيت، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب، …”[12].

–  ابن جبرين، سئل: ما حكم دفع زكاة أموال أهل السنة لفقراء الرافضة (الشيعة) وهل تبرأ ذمة المسلم الموكل بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي الفقير أم لا؟

فأجاب:  لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنها لا تدفع لكافر، ولا لمبتدع، فالرافضة بلا شك كفار لأربعة أدلة، …..[13].

-وبمجرد أن تحضر هذه الندوة مثلا وهي بمناسبة المولد النبوي فإن ذلك يعطيك فسقا محققا، يقول ابن جبرين موضحا البدعة المكفِّرة والمفسِّقة: ”

(حجررد أن تحضر هذه الندوة مثلا وهي بمناسبة المولد النبوي فإن ذلك يعطيك فسقا محققا، يقول ابن جبرين في فتوى أخرى: ” لاحقا.

كل تأكهناك بدعة مفسِّقة كبدعة الموالد، وصلاة الرغائب، وإحياء ليلة الإسراء، وبدعة الرافضة يوم عاشوراء، وعيد الغدير للرافضة. أما المكفِّرة فبدعة الرافضة بسب الصحابة، والطعن في القرآن، وبدعة الجهمية بالتعطيل ونحو ذلك”[14].

غياب الرحمة وانعدامها هو سبب الشقاء

بعد هذا يتبين أن ما يشهده عالم الإسلام اليوم من قتال وتناحر وبغضاء بين الإخوة والمناطق، وما يحصل من قطع للطرقات وانتهاك للمحرمات ما هو إلا نتيجة الفكر التكفيري الذي يروِّج له هؤلاء الشيوخ. ما نسمعه من دعوات للجهاد وما يمتلئ به اليمن اليوم من غبارِ الفتن والحروب التي تأكل الأخضر واليابس وقضت على أحلام اليمنيين في ما سمي بثورة الشباب، كل ذلك ما هو إلا نتيجة غياب مبدإ الرحمة، رحمة الإسلام، رحمة الرسالة النبوية المحمدية.

إنها الرحمة حين لا تحل قلبا بشريا فإنه يتحول بعدها إلى وكر شيطاني.

لقد كان ذلك واقع الأمة طبعا في بعض مظاهر القسوة والشدة المناقضة للرحمة، وذلك باعتباره نموذجا، كما أن هناك نماذج أخرى، قد تكون في هذا التيار أو ذلك، ولكنها في غالب الأحوال نادرة وقليلة الوقوع، بينما نجدها حاضرة بقوة في ذلك الفكر التكفيري الذي يملك المال والسلاح والرجال، وتطايرت شروره في كل مكان. والسؤال الأهم أين هو الرسول الرحمة من هذا الواقع الذي يريد هؤلاء وصله به وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم.

 الرسول الرحمة، بحث بياني في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين):

يكفي أن نقف بيانيا مع الآية الكريمة التي تحصر رسالة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في الرحمة، وهو المعنى الذي أكده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين قال (إنما أنا رحمة مهداة).

إن هذه الآية الكريمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء 107) بصيغتها الحصرية التي يخاطب فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وردت بذات الصيغة في مواضعَ قليلة في القرآن، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ 28)، ويقول: (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) (الفرقان 56، والإسراء 105) وكذلك قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ولا يبعد أن هذ الصيغة التي جعلت من مرسَلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم محصورة على كونه رحمة للعالمين، وفي هذه الآية علاقة بالآيتين السابقتين من حيث دلالتها على عالمية الإسلام وكونه رحمة لكل العالمين، وفيها إشارة إلى وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الرحموتية من كونه مبشِّرا بالرحمة ونذيرا لها، لدى هؤلاء العالمين، وفي البشارة والإنذار تكمن الرحمة التي أرادها الله عز وجل، وتقديم البشارة على الإنذار في الآيات دليل آخر على كون الرسالة رحمة للعالمين.

هذه الآية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فاقت أجمع بيت قالته العرب، وهو “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”، قالوا: إن الشاعر وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل، فجمع فيه ستة معان لا غير، لكن الآية الكريمة اشتملت على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف، وقد ذكر فيها الرسول والمرسِل والمرسَل إليهم والرسالة وأوصاف كل مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسَل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير (رحمة) للتعظيم، وليس للإفراد لظهور أن المراد جنس الرحمة، وليس  نوعا منها، وتنكير الجنس هو الذي يعرِض له قصْدُ إرادة التعظيم؛ فهذه اثنا عشر معنى.

وانتصاب (رحمة) في الآية إما على المفعولية لأجله، ويكون القصْر فيها هو قصْر الرسول المسنَد إليه الرسالة على سببية الرحمة لجميع العالمين، ونفي أي سبب آخر، وهو معنى عظيم يشير إلى أن الرحمة للعالمين هي الباعث على إرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأكرِم بدين ما جاء إلا تلبية لداعي الرحمة للعالمين، وإما على الحالية من ضمير المخاطب في (أرسلناك)، وحينئذ يكون من قصر المخاطب مسندا إليه الرسالة على صفة الرحموتية، وهو من قصر الموصوف على الصفة كالأول، وفيه إيماء لطيف حيث يفيد أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن (الرسولية) ملازمة له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة، وصارت سائر أكوانه رحمة، ووقع الحال (رحمة) مصدرا، وهو جائز عند محققي النحويين، إذ أنه جاء مبينا لهيئة صاحبه، وتكلُّفُ بعضِهم تأويلَه يُفْسِد المبالغة المستفادة من بلاغة استخدامه مصدرا، وهو (الوقوع) يفيد كون (الرحمة) صفة متمكنة من إرساله، وكأنه (الرسول) صار إياها (رحمة)، فكأن إرساله هو الرحمة ذاتها، ويدل على هذا المعنى قول صلى الله عليه وآله وسلم :”إنما أنا رحمة مهداة”، وصار صلى الله عليه وآله وسلم عندئذ رحمة متمحضة خالصة للعالمين.

من هم (العالمين)؟!!

جاء التعريف في (للعالمين) لاستغراق كلِّ ما يصدُق عليه اسمُ العالَم، والعالَم: الصنف من أصناف ذوي العلم، كالجن والإنس، أو هو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة، فإن أريد بها المعنى الأول فمعنى كون الرسالة المحمدية منحصرة في الرحمة: أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس وأعمها، وتتعلق بجميع أحوال المكلفين، وأن رسالته أقيمت على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة).

وإن أريد بـ(العالمين) المعنى الأشمل الذي يشمل المعنى الأول المذكور سابقا والثاني وهو أنواع المخلوقات ذات الحياة؛ فإن الشريعة الإسلامية أمرت بالرحمة بسائر الحيوانات ووضحت العلاقة بين الحيوان والإنسان؛ إذ هو مخلوق لأجل الإنسان، قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، وقال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون)، وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتَفع به من الحيوانات بعد تحريم العقل للإضرار بها، ولهذا حرُم استخدامُ الحيوان أو الانتفاعُ به لا على الوجه المشروع، ثم بناءً على عقيدة العدل يذكر أصحابنا الزيدية في أصول الدين أن عدل الله يقتضي أنه لا بد من تعويضها في الآخرة عما يصيبها من الأضرار في الدنيا بسبب الإذن الشرعي الناقل لحكم العقل في إيلامها والانتفاع بها.

ويترجح لديّ أن كلمة (للعالمين) تشتمل على المعنيين جميعا، فرسالته صلى الله عليه وآله وسلم رحمةٌ للعقلاء وغيرهم من الحيوانات، وقد أدّب الإسلام أبناءه على التعامل الحسَن معها، وزجر من يخالفها، وتبني الإسلام الرفق بالحيوانات كواجب شرعي يدل على أنه رحمة عامة، وأستأنس بشرح القرآن الكريم لماهية العالمين، حينما تعنّت فرعون قائلا: (وما رب العالمين، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال لمن حوله ألا تستمعون، قال ربكم ورب آبائكم الأولين، قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون)، فالآيات تبين أن العالمين هي السماوات والأرض وما بينهما، والحاضرين وآباءهم الأولين، والمشرق والمغرب وما بينهما، وخرج ما عدا الحيوان عن مقتضى الرحمة؛ لأن العقل لا يجد علاقة سائغة للرحمة بما عداها، ومن المعلوم أن الإسلام دينٌ نظّم كل شيء حتى العلاقة التي يجب أن تسود بين الإنسان وهذه العوالم الأخرى، مراعيا في نفس الوقت إحساسها وحقها.

بالمؤمنين رؤوف رحيم

أرأيتم كيف يصنع المسلمون ببعضهم، كيف يكونون أشداء على بعضهم، ورحماء على أعدائهم، لكن كيف يصف القرآن الكريم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم؟

لقد تجلّت صفة الرحمة – وهي مظهر من مظاهر رحمة الله – في نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، الموصوف بأنه (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وتقديم المعمول بيانيا هنا يفيد حصر رؤوفيته ورحيميته بالمؤمنين دون من سواهم، ولكن لا ينفي كونه رائفا أو راحما لسواهم، والمقصود هو حصر مدلولي صيغتي المبالغة (رؤوف رحيم) عليهم، لا مجرد وقوع الرحمة والرأفة، فهذا عام لجميع العالمين؛ كيف لا وقد اتحد النبي الرحمة بها، وكانت رسالته منحصرة فيها، بدليلِ وقوعِها منه لغير المؤمنين، وكاد أن يقضي أسفا حين لم يؤمِنْ قومُه، قال تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)، والبخع هو القتل، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد تأسَّف على عدم إيمانهم أسفا كاد أن يقضي عليه، وكذلك قوله تعالى: (لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين)، وآية ثالثة تقول: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).

الآية (بالمؤمنين رؤوف رحيم) تحصر كثرة وتنوع رأفته ورحيميته بالمؤمنين، ولكنه أيضا رائف ورحيم بمن سواهم، يحب لهم الهداية والخير والخاتمة الحسنة.

لما غابت هذه الرحمة عن المسلمين اليوم غاب عنهم جوهر الإسلام وحقيقة الرسالة المحمدية، وأتساءل أين ذُهِب بهم عن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين وصفه الله تعالى بقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)، وقوله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين)، وقوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)؟ لم تناحروا في ما بينهم؟ ولم اتخذ بعضهم بعضا عدوا، ونسوا الأعداء الحقيقيين، لماذا يبدون أشداء فيما بينهم، ورحماء بل أذلاء مع أعداء الإنسانية وأعداء النبي الأكرم مظهر الرحمة الإلهية صلى الله عليه وآله وسلم؟!! لقد أضاعوا الرحمة يوم انتقض بهم الإسلام عروة عروة.

هؤلاء الأطفال الذين تقتلهم التفجيرات الانتحارية في المدارس والأسواق وينتظرهم الموت على متن الطريق وقارعتها، كان تفيض عيناه لموتهم، وقد سأله مرة سعد بن عبادة يا رسول الله ما هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[15].

هل الرحمة عاطفة منزوعة الضوابط

إن هذا الرسول الرحمة الذي خطئ المسلمون للأسف الشديد الطريق إليه؛ تمكّنت الرحمة من قلبه، بحيث لم تعرف القساوة طريقا إليه، ولكن مع ذلك فقد جاء الأمر الإلهي ليبين أن الرحمة ليست عاطفة منزوعة الضوابط دائما، فهناك من الحالات الاستثنائية ما تدعو إلى الخروج عن الرحمة الظاهرية واستخدام الخشونة، فلا ينفع المريض بالسرطان مثلا رحمة طبيب أعفاه عن إجراء عملية جراحية رحمة به، والرحمة له تتحقق بأن يمسك الطبيب مشرطه ليمزِّق الجسدَ المعتل من أجل استئصال مرضه، وكذلك ليس من الرحمة بالعالَم ولا بالمسلمين أن تُتْرَك أدواءُ مرضِ الظلمِ وعلة الاستبداد والكفر المستكبر والمتعالي أن تستشري في المجتمع بحجة أن نبقى رحماء، هذه ليست رحمة إنها الضعف والخوَر، إنها القساوة من حيث تسمح للمستكبرين أن يعيثوا في الأرض؛ ولهذا جاء الأمر من الله الرحمن الرحيم لنبيه الرحمة أن يستخدم الخشونة في وقت ما والتي تفهم ظاهريا على أنها مناقضة للرحمة، ولكنها في الواقع ليست إلا جانبا من جوانب الرحمة الباطنة الذي قد يخفى على البعض حكمته وجدواه، فقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)، وحين أمره بقتال العرب المجاورين لجزيرة العرب والمتحالفين مع الرومان، فقال عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا جاهدوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة)، وهي نوع من القوة في الموقف، هي ما يمكن تسميتها بحالة من الخشونة الإيجابية إن صحّ التعبير؛ لأنها نابعة من قلب مُفْعَمٍ بالرحمة، بخلاف تلك الخشونة القادمة من قلبٍ مسجورٍ بالقسوة، التي ذكرها القرآن في معرض الكراهة ومقترنة بالشياطين، وقبول القلوب القاسية لتأثيرها، وهناك فرق بين أن تضرب للتأديب أو تضرب للانتقام.

ويعرض القرآن الكريم القسوة التي تبدو نقيضة للرحمة باعتبارها الخشونة السلبية التي يُنْظَر إليها باعتبارها شرا محضا لا خير معه، وباعتبارها انتقاما وجزاء على فعل السوء، فحين تقسو القلوب تصبح وكرا للشياطين؛ (ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون) (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم  مواضعه) (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)، وهنا يبدو واضحا أن القلوب القاسية والناقمة لا يمكن أن تكون يد بناء، ولا فكرة خلاقة ومبدعة، بل هي أقرب إلى الهدم والدمار. وهذا هو ما يؤكد واقع تلك الحركات التكفيرية التي لم تعرف معنى الرحمة النبوية المحمدية التي جاءت بالإسلام.

شبهة

قد يقال بأن هذه الرحمة العامة للعالمين قد تُستشكل بقتال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للكفار في بدر وغيرها، فأي رحمة حصلت لهم؟، وكذلك ما أُمِر به من الغلظة على الكافرين والمنافقين، وفي إقامة الحدود على المعتدين؛ فالجواب: أنه يجب النظر إلى الرحمة باعتبارها رحمة لجميع العالمين، وهذا الاستشكال نشأ من النظر إليها باعتبارها منفردة في شخص الكافر المحارِب والمقتول، أو الفاسق المفسِد المقام عليه الحد، الذي وضع الإسلام ضوابط كثيرة قبل الوصول إلى حالة تطبيق الحد، فليس مقتضى الرحمة للجميع أن يُتْرَك بعضٌ منهم ليفعل ما يحلو له من إيذاء المؤمنين وقتلهم والتسلط على المستضعفين، والسكوت عن مظالم الظالمين، وإن بلغ أثرا كثيرا في اختلال نظام الدنيا والدين، وعليه فإن من مقتضيات الرحمة العامة للجميع أن تُحْسَم المادَّة التي يأتي منها نقيضُ الرحمة بتكدير صفوِ المجتمع، وإفساد أمره، فلا يجوز أن يُرحَم مثلا القاتل المصرُّ على ارتكاب المزيد من القتل؛ لأن هذه الرحمة ستؤدي إلى نزع الرحمة عن مجتمع بأكمله، وحصول القسوة والظلم عليهم، ولو تُرِك هو وأمثالُه وشأنَهم لحضرت الجريمة والنقمة، وتضاءلت الرحمة، وكذلك العقوبات فإن عقوبة واحدة لمجرم واحد ستؤدي إلى توفير الرحمة لعشرات كانوا سيُحْرَمونها، والمعلوم تاريخيا أن العهود التي يُطَبَّق فيها القانون الجزائي تقِلُّ فيها الجرائم، فعقوبة واحدة تؤدي إلى سلامة المجتمع من عشرات الجرائم، وهذا هو مغزى الحدود والتعزيرات والقصاص في الإسلام؛ والمجتمعات التي لا تطبّق فيها العقوبات تكثر فيها الجرائم، وتغيب الرحمة، ويتسلسل الإجرام، ولو طُبِّق فيها الحد ولو لمرة واحدة لأمسك كثيرٌ من المجرمين عن فعلاتهم المنكرة، وبهذا تكون الرحمة قد تحقّقت في أكمل وجه وبأقل الخسائر.

العالم والرحمة

تسود عالمَنا اليوم الماديةُ بشكلٍ فظيع، وتستأثر به القسوة بنحوٍ مرْعِب، وتظل القيم الإنسانية التي تنادي بها المنظمات الإنسانية غير كافية، وأكثرها غير بريء، وتتحكم فيها الازدواجية، وحقوق الإنسان ينظر إليها الغربيون المدعون للتحضر من زاوية عنصرية، فحقوق الإنسان من غير أناسهم تأتي لديهم في آخر سِلَّم الاهتمامات، ويسبقها بمسافات طويلة المصالحُ القومية لهم ولشعوبهم، والواقع يثبت أن أكثر مصادر القسوة هي هذه الحضارة المعاصرة التي تشهدها أنظمة الاستكبار، والتي تفتقد عنصر الرحمة، وتعصف بها رياح القسوة، فكم شُنّت الحروب من قبلهم ضد بعضهم أهداف مصلحية خاصة، أو أهداف اتضح أنها مكذوبة واتخذت ذريعة لتدمير الشعوب، غزو العراق أنموذجا، وطائراتهم تقتل الناس تحت كل حجر ومدر، وشركات التصنيع الحربي تصنع الرؤساء للضغط على الشعوب الأخرى لاتخاذها أسواقا لإنتاجهم، كما أنها تفتعل الحروب وتصنع الأعداء الوهميين للعب على عقول المستضعفين الذين هانوا على أنفسهم لكي ينشغلوا ببعضهم وبشراء الأسلحة اللازمة، لعلكم لاحظتم كيف يجيّشون هؤلاء التكفيريين ضد المجتمعات الإسلامية،  ويوظفون بغضهم وحماقتهم لخدمة أغراضهم السياسية والمصلحية ولو تسببوا وارتكبوا في قتل مئات الآلاف وتشرد الملايين، إنها القسوة إذن في أبشع صورها، وغياب الرحمة التي تفتقد أجلى مظاهرها في نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم وفي دينه القويم.

إذن هي الرابط الجامع والوسيلة النافعة

إن الرحمة إذن يجب أن تكون الرابطة الجامعة بين المؤمنين، وأن تكون الوسيلة النافعة للمؤمنين وهم يدعون غيرهم إلى دينهم، كما أنه من البيّن وجوب أن يكون حكام المسلمين على درجة كبيرة من هذه الرحمة، التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأجزم أنه لو حضرتهم تلك الرحمة لما نكّلوا بشعوبهم، ولما استأثروا بأموالهم، ولما عبثوا بمقدراتهم، وبحاضرهم ومستقبلهم، لكنهم لما كانوا متصفين بالجفاء والاستبداد والظلم كانوا أقرب إلى النار التي هي مباءة القساة والجفاة منهم إلى الجنة التي هي رحمة الله التي وعد عباده المؤمنين أن يدخلهم فيها.

إن الرحمة هي جوهر الرسالة المحمدية، وبها تتحقّق سعادة العالمين لو عقلوا معناها، وبها تتحقق وحدة المسلمين لو أدركوا فحواها، وبها يرفرف لواء الإسلام خفاقا على ربوع العالم لو كانت الرحمة مطيتهم التي تهديهم إلى التعامل السليم، ثم أليس الرحمة هي الرابطة الإسلامية الإنسانية التي عناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قال: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[16].


الهوامش:

[1] كتاب السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل، ت. محمد القحطاني، ط1، الدمام، دار ابن القيم، ج1 ص180 – 220.
[2] الصارم المسلول للشيخ ابن تيمية، ط1، بيروت، دار ابن حزم، 1417هـ، ج1، ص570.
[3] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1 ص، 121، 280.
[4] فتاوى الإسلام سؤال وجواب، ج 1 ص1836، المكتبة الشاملة، سؤال رقم 20885- الصلاة خلف أصحاب البدع الكفرية وغير الكفرية، المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني.
[5] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1، ص114- 115.
[6] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1، ص115.
[7] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1، ص107، 112.
[8] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1، ص118.
[9] السنة لعبدالله بن أحمد، ج1، ص124، 127.
[10] البداية والنهاية، لابن كثير الدمشقي، بيروت، دار المعارف، ج5 ص252.
[11] البداية والنهاية لابن كثير، ج14 ص287.
[12] صدرت الإجابة من مكتبه في 22 / 1 / 1409 هـ برقم 136 / 1.
[13] هذه الأدلة هي الأول: طعنهم في القرآن، وادعاؤهم أنه قد حذف منه أكثر من ثلثيه، كما في كتابهم الذي ألفه النوري وسماه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وكما في كتاب الكافي، وغيره من كتبهم، ومن طعن في القرآن فهو، كافر مكذب لقوله تعالى (وإنا له لحافظون).

الثاني: طعنهم في السنة وأحاديث الصحيحين، فلا يعملون بها، لأنها من رواية الصحابة الذين هم كفار في اعتقادهم، حيث يعتقدون أن الصحابة كفروا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي وذريته، وسلمان وعمار، ونفر قليل، أما الخلفاء الثلاثة، وجماهير الصحابة الذين بايعوهم فقد ارتدوا، فهم كفار، فلا يقبلون أحاديثهم، كما في كتاب الكافي وغيره من كتبهم.

الثالث: تكفيرهم لأهل السنة، فهم لا يصلون معكم، ومن صلى خلف السنى أعاد صلاته، بل يعتقدون نجاسة الواحد منا، فمتى صافحناهم غسلوا أيديهم بعدنا، ومن كفّر المسلمين فهو أولى بالكفر، فنحن نكفرهم كما كفرونا وأولى.

الرابع: شركهم الصريح بالغلو في علي وذريته، ودعاؤهم مع الله، وذلك صريح في كتبهم، وهكذا غلوهم ووصفهم له بصفات لا تليق إلا برب العالمين، وقد سمعنا ذلك في أشرطتهم. ثم إنهم لا يشتركون في جمعيات أهل السنة، ولا يتصدقون على فقراء أهل السنة، ولو فعلوا فمع البغض الدفين، يفعلون ذلك من باب التقية، فعلى هذا من دفع إليهم الزكاة فليخرج بدلها، حيث أعطاها من يستعين بها على الكفر، وحرب السنة، ومن وكل في تفريق الزكاة حرم عليه أن يعطى منها رافضيا، فإن فعل لم تبرأ ذمته، وعليه أن يغرم بدلها، حيث لم يؤد الأمانة إلى أهلها، ومن شك في ذلك فليقرأ كتب الرد عليهم، ككتاب القفاري في تفنيد مذهبهم، وكتاب الخطوط العريضة للخطيب وكتب إحسان إلاهي ظهير وغيرها، والله الموفق. رقم فتوى ابن جبرين 1147 في فتاوى الإسلام، المكتبة الشاملة، وهي موجودة أيضا في كتاب (فتاوى ابن جبرين)، المكتبة الشاملة.
[14] فتاوى الشيخ ابن جبرين، ج18 ص27، المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني.
[15] رواه البخاري، وغيره.
[16] هذا جزء من مقالة بعنوان (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) للكاتب نشرت في مجلة بينات اليمنية.

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com