المعركة مفاهيم قبل أن تكون بنادق
يمني برس | بقلم: أ. عبدالسلام جحاف
في خطاب اليوم بدا واضحًا أن جرعة الوعي التي رفعها السيد القائد لم تكن مجرد شعارات عابرة أو خطابات تحفيزية، بل كانت بمثابة محاولة واعية لإعادة صياغة الوعي الجمعي في لحظة تاريخية يقابلها ارتفاع غير مسبوق في سقف مشروع العدو. وكأن الصراع يترجم اليوم على مستويين متوازيين: صراع الوعي وصراع القوة؛ الأول يسبق الثاني ويوجهه، أما الثاني فليس إلا انعكاسًا طبيعيًا للأول.
الفلسفة تعلمنا أن الفعل في جوهره ابن الفكرة، وأن السلوك لا يصدر إلا عن تصور كامن. وعلى هذا الأساس، فإن المعركة ليست مجرد تحشيد للجيوش ولا سباقًا في ميدان السلاح، بل هي قبل كل ذلك مواجهة مفاهيمية. إن الأمة لا تُهزم حين تخسر معركة عسكرية بقدر ما تُهزم حين تفقد القدرة على تعريف نفسها وفهم مشروعها وصياغة رؤيتها. وحين يرفع العدو سقف مشروعه، فهو لا يبدأ من الميدان العسكري، بل من الميدان الرمزي والفكري: احتلال المفاهيم، تزوير المعاني، وإرباك الوعي. لذلك فإن رفع مستوى جرعة الوعي في الخطاب الأخير ليس ترفًا، بل يمثل استجابة طبيعية لمستوى التحدي.
فالمعركة مع العدو في جوهرها معركة على العقل قبل أن تكون معركة على الأرض. فالأرض يمكن أن تُستعاد، لكن إذا احتُلّ العقل يصعب تحريره. ولهذا يصبح الوعي بمثابة السلاح الاستراتيجي، بل هو السلاح الأم الذي يتولد عنه كل سلاح آخر. وحين تدرك الأمة المفهوم وتعي جوهر الصراع، يصبح من الممكن مواجهة الانعكاسات العملية لذلك الصراع في ميادينه المختلفة: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الإعلام إلى العسكر. أما حين يغيب الوعي، يصبح السلاح أداة عمياء تتحرك بلا بوصلة.
وإذا تأملنا مسار الحضارات، سنجد أن كل مواجهة كبرى كانت في أصلها صراع رؤى: بين ما يُراد للأمة أن تكون، وما تريد هي أن تكونه فعلًا. وهذا الصراع ليس حادثًا عابرًا، بل هو جزء من طبيعة التاريخ وسنة من سنن الاجتماع البشري. ولهذا فإن أول متطلبات الصراع هو أن تعي الأمة ذاتها: من هي؟ ماذا تريد؟ وما المفهوم الذي تنطلق منه؟
ومن هنا نقول: إن خطاب اليوم لم يكن مجرد رفع للمعنويات، بل كان إشارة فلسفية إلى أن المعركة مفاهيم قبل أن تكون بنادق. فمن امتلك المفهوم امتلك القدرة على صياغة الواقع، ومن وُلد وعيه وُلدت معه كل أشكال القوة. وإذا كان العدو يرفع سقف مشروعه، فإن أول رد عملي هو أن نرفع سقف وعينا؛ فليست كل معركة تُحسم بالبندقية، لكن كل بندقية لا تحيا إلا بوعي يبررها ويوجهها.