إبادة غزة بالتجويع.. صمت دولي يُفرّغ الإنسانية من معناها!
إبادة غزة بالتجويع.. صمت دولي يُفرّغ الإنسانية من معناها!
يمني برس | تقرير خاص
في قطاع غزة المحاصر، تتكشف مأساة إنسانية عميقة، حيث يتحول الجوع إلى سلاح فتاك، يفتك بالأرواح ويحطم النفوس. إنها سياسة ممنهجة تُفرض على شعب بأكمله، بينما يقف العالم متفرجاً على هذا المشهد الدرامي الذي يعكس عاراً مطلقاً.
تروي من غزة، صوت الطالبة تقوى أحمد الواوي، وهي يصف واقعاً مريراً، حيث تؤدي امتحاناتها النهائية “بمعدة فارغة، وعقل مشوش، وجسد ضعيف”، في ظل ارتفاع جنوني للأسعار وموت غزة جوعاً. تقول الواوي، الذي لم تتخيل يوماً أن تنطق بعبارة “أنا جائع” بصوت عالٍ، إنها الآن ترددها كل يوم. هذه المعاناة الحالية تتجاوز أي تجربة سابقة لها، بما فيها من تفويت وجبات أو فقدان شهية، لتصبح مجاعة حقيقية تبتلع كل فكرة وتستنزف قوى البقاء.
تتجاوز المعاناة الجسدية، لتسيطر على العقول. “لقد سيطر الجوع على عقولنا. أصبح كل ما نفكر فيه – لا دراساتنا ولا مستقبلنا. الطعام فقط. كيف نجده. كيف ندفع ثمنه. كيف ننجو”، هكذا يصف الواوي التحول في أولويات الحياة اليومية.
الجوع كسلاح.. أسعار لا تُصدق وعقوبات خفية
في يوليو، أسعار المواد الغذائية الأساسية في غزة ترسم صورة صادمة:
1 كجم دقيق = 200 شيكل (60 دولارًا)
1 كجم سكر = 400 شيكل (120 دولارًا)
1 كجم معكرونة = 100 شيكل (30 دولارًا)
1 كجم أرز = 150 شيكل (45 دولارًا)
1 كجم بطاطس = 100 شيكل (30 دولارًا)
1 كجم عدس = 80 شيكل (26 دولارًا)
1 كجم طماطم أو باذنجان = 90 شيكل (24 دولارًا)
هذه الأسعار تمثل عقوبات اقتصادية تُفرض على السكان. وحتى إن تمكن المرء من جمع المال، فإن مشكلة العملة نفسها تبرز، حيث يرفض أصحاب المتاجر الأوراق النقدية القديمة أو الممزقة، أو يتقاضون عمولة تصل إلى 45% على المقبولة منها. هذا التقلب المستمر في الأسعار، حيث قفز سعر الدقيق من 70 إلى 200 شيكل بين عشية وضحاها، يحول الغذاء الأساسي إلى سلعة في سوق الأوراق المالية، يُقايض فيها البقاء بالساعة.
تصف آية، إحدى سكان غزة، مشهداً مؤلماً من نافذة غرفتها: مطعم الحساء، الذي سُمي على اسم مؤسسه أبو شافعي الذي قُتل قبل أسابيع، أصبح معلماً للبقاء. قبل شروق الشمس، يتجمع الناس في صمت وجوع، ممسكين بأوانٍ فارغة، في انتظار مغرفة واحدة من الحساء المائي، الوجبة الوحيدة التي تتلقاها العديد من العائلات يومياً، ويتقاسمها ما يصل إلى عشرة أشخاص. تقول آية إنها رأت أناساً ينهارون في الشارع من الجوع، وأماً تبكي وهي تحمل ابنها، ليس لأنه جريح، بل لأنه همس: “ماما أريد أن آكل”، ولم يكن لديها شيء.
أطفال غزة.. ضحايا صمت العالم
تتوالى الأنباء عن وفيات الأطفال بسبب الجوع، لتُعلن عن شخصيات جديدة كل يوم، كل واحدة منها تمثل طفلاً حقيقياً وموتاً حقيقياً. فحسب موقع “ميدل ايست آي” في22 يوليو/تموز، توفي 15 فلسطينياً على الأقل – أربعة منهم أطفال – جوعاً في يوم واحد، مما يرفع إجمالي الوفيات المرتبطة بالجوع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 101، بما في ذلك 80 طفلاً، وفقاً للمعلومات الواردة في النص.
وفقاً لليونيسف، نُقل أكثر من 6000 طفل إلى المستشفيات في يونيو/حزيران وحده بسبب سوء التغذية الحاد، ويُقدر أن 930 ألف طفل يواجهون الآن جوعاً كارثياً، بينما يواجه 650 ألف طفل دون سن الخامسة خطر الموت. وبحسب وزارة الصحة في غزة، توفي 115 شخصاً بسبب الجوع وسوء التغذية في القطاع، بينهم 81 طفلاً.
هذه الأرقام فضلاً عن كونها إحصائيات، هي قصص أطفال يموتون في صمت، ليس بسبب القنابل أو الرصاص، وإنما بسبب الجوع الذي يقتلهم، والصمت الذي يدفنهم. وكما أعلنت رسالة متداولة في غزة للعالم العربي والإسلامي: “أنتم خصومنا أمام الله. أنتم خصوم كل طفل، وكل يتيم، وكل أرملة، وكل نازح وجائع. صمتكم مكّن هذه الإبادة الجماعية. نحملكم مسؤولية هذا النزيف”.
الموت جوعاً.. سؤال مؤرق يطارد الوعي؟
تطرح الكاتبة مها حسيني في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” سؤالاً مؤرقاً: “ما الذي يجول في ذهن شخص ما عندما يأخذ أنفاسه الأخيرة بسبب الجوع؟” تتخيل شخصاً مستلقياً على سريره، يموت في صمت مطبق، صمت أقوى من 125 ألف طن من المتفجرات التي أُلقيت على غزة خلال الواحد والعشرين شهراً الماضية، صمت يُبقي الحدود مغلقة ويُمنع دخول الطعام. هل يشعرون بالخيانة من قبل الإنسانية؟ أم أنهم يفكرون في الطعام فقط، ويتوقون إليه، متخيلين أنفسهم حول طاولة كبيرة، محاطين بعائلاتهم؟
قصص سيارات الأجرة في غزة تعكس هذا الواقع الأليم. تروي مها حسيني عن شابة تحمل رضيعاً حديث الولادة، يعاني من سوء تغذية حاد، حيث انخفض وزنه بدلاً من أن يزداد، لأن حليب الأم لم يعد يحتوي على ما يكفي من العناصر الغذائية بسبب سوء تغذية الأم نفسها، وعدم توفر حليب الأطفال. كما تصف لقاءها بامرأة وابنتها ذات الخمس سنوات التي تبدو يدها صغيرة ورقيقة جداً، حتى بالنسبة لطفلة في الثالثة من عمرها، مما يشير إلى الهزال الشديد. هذه القصص هي لقطات من سكان كاملين يذوون بهدوء، في مجتمع يعاني من الجوع في كافة مناحي الحياة.
في غزة، تتحول الحياة إلى مأساة مدوية، حيث تتجسد الفجيعة في تفاصيل يومية مؤلمة. الأم التي تتوسل لإنقاذ طفلها الرضيع، الذي لم يبلغ شهره الأول، يذوي بين ذراعيها بسبب سوء التغذية الحاد، ليصبح وزنه ملموسًا على هذا الواقع المرير. حليبها، الذي كان ينبغي أن يكون مصدر الحياة، أصبح عاجزًا عن إشباع جوع فلذة كبدها، فهي نفسها أسيرة براثن الجوع.
في سيارات الأجرة، تتكشف قصص أخرى مماثلة، قصص أمهات منهكات يحملن أطفالهن الهشين إلى المستشفيات، أجسادهم النحيلة وعيونهم الغائرة تحكي فصولاً من المعاناة الصامتة. حتى لمسة الطفولة البريئة، كما في يد الطفلة ذات الخمس سنوات التي تبدو وكأنها في الثالثة، تكشف عن آثار الجوع الذي ينخر في أجسادهم الصغيرة.
إن ما يحدث في سيارات الأجرة ليس سوى انعكاس قاتم لما يجري في أرجاء غزة، صيدليات خاوية، ومستشفيات تعاني نقصًا حادًا في الإمدادات، وأسواق تفتقر إلى الطعام. وفي المنازل، ينام الأطفال جائعين ليلة بعد ليلة، ضحايا أزمة إنسانية متفاقمة. إنها قصة مجتمع بأكمله يتلاشى تدريجياً، تختنق فيه آمال المستقبل تحت وطأة الجوع واليأس.
الجوع المسلح.. تواطؤ دولي وصمت عربي
ما يحدث في غزة يتجاوز كونه مجاعة، إلى أن صار “جوعاً مسلحاً”، فيه خنق متعمد لشعب، لا يتم بالحبال المادية، وإنما بآليات بيروقراطية معقدة. القوات الإسرائيلية تقصف المخابز، وقوافل المساعدات، وتدمر المزارع، وتمنع شحنات الغذاء من خلال عمليات التخريب اللوجستي. إنها تجوع غزة بنفس الدقة التي تستخدمها لقتلها. لم يحدث في التاريخ الحديث أن تم حبس سكان مدنيين في شريط مسيج من الأرض – محرومين من الغذاء والماء والوقود – بينما يتم قصفهم من الجو والبر والبحر. هذا الوضع يمثل “أول إبادة متلفزة في العالم”، معسكر اعتقال يتعرض لهجوم جوي مستمر.
حتى الصحفيين، الذين ينقلون الأخبار، يعانون من الجوع. وقد عبر مراسلو الجزيرة عن جوعهم: “ننقل لكم الأخبار ونحن جائعون. لم نجد لقمة نأكلها منذ الأمس”. الجوع هنا لا يهدف إلى القتل فحسب، بل إلى سحق القدرة على التفكير والتنظيم والأمل.
في “نقاط التوزيع” التي تديرها ما يسمى مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، والتي هي عبارة عن مواقع يديرها الجيش الإسرائيلي، يذهب الناس للحصول على كيس من الدقيق، ويعودون جثثاً. في يوم الأحد، قُتل 115 فلسطينياً بالرصاص أثناء محاولتهم الحصول على المساعدة، 92 منهم كانوا يحاولون الحصول على الطعام، وكان تسعة عشر منهم أطفالاً. منذ 27 مايو/أيار، قُتل أكثر من 1000 فلسطيني، وجُرح ما يقرب من 5000 آخرين، في هذه النقاط، حيث تفتح القوات الإسرائيلية النار على المدنيين الجائعين.
النظام العالمي الجديد.. فوضى أم نهاية؟
هذا الوضع لا يمثل حرباً تقليدية، إنه فناء مدبر، مطوّل، ومسموح به. جيش العدو الإسرائيلي تلقي القنابل وتغلق البوابات. الولايات المتحدة تدفع ثمن الأسلحة وتحميها باستخدام حق النقض.
إذا كان هذا هو شكل “النظام العالمي الجديد” الذي تُشكل معالمه الولايات المتحدة، فما الذي تبقى للإنسانية؟ هذا النظام، الذي يُشرّع الظلم ويُبيح الجرائم باسم المصالح، ويُطيح بكل القيم والمواثيق التي سعت البشرية لبنائها، ينذر بنهاية الوجود الإنساني كما نعرفه. إن الفساد الذي تعيثه أمريكا في هذا النظام، حمايةً وتشريعًا للأطماع الصهيونية، هو بمثابة سرطان يُنهش جسد العدالة الدولية. لقد باتت الأمم المتحدة مجرد أداة تُستخدم لتبرير سياسات القوى العظمى، وتُفرّغ من مضمونها الحقيقي كحامية للضعفاء والمظلومين.
والمأساة الكبرى تتفاقم في ظل صمت دولي وتواطؤ مفضوح، يضاف إليه خذلان وذل عربي وإسلامي لم يسبق له مثيل. بل ذهب الأمر إلى حد إعلان الحرب على “محور المقاومة” الذي سعى لنصرة القضية الفلسطينية والمظلومية التي يتعرض لها شعبها.
أما الأنظمة العربية، لاسيما المطبعة، فهي الأقرب. تتحدث عن الأخوة والدم المشترك، لكنها الآن حراس وسجانون ومنفذون. يُشار إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أقام منطقة عازلة في سيناء لعزل غزة، حيث معبر رفح مغلق، وشاحنات المساعدات تفسد تحت أشعة الشمس، والأطباء ممنوعون من الدخول، والأطفال يموتون ليس لنقص المساعدة، بل بسبب منعها.
وفي الأردن، تُعتقل المعلمون والطلاب وزعماء القبائل لمجرد تلويحهم بالأعلام وإقامة الخيام وتنظيم المساعدات، بحجة محاربة الإخوان المسلمين، بينما هي في الواقع لسحق فلسطين. ما يفعله السيسي بنقاط التفتيش، يفعله الأردن بقاعات المحاكم. التضامن أصبح جريمة، والخضوع فضيلة.
أوروبا، الفخورة بتنويرها، والسريعة في ترديد “لن يتكرر أبدًا”، صامتة جدًا عندما تكون الجثث فلسطينية. الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر للقوات الإسرائيلية، وقد وقع اتفاقية تعد فيها بحقوق الإنسان كشرط للتجارة، لكن هذا الوعد أصبح الآن كارثيًا. مراجعتهم الخاصة وجدت أن القوات الإسرائيلية انتهكت الاتفاقية، وماذا فعلت أوروبا؟ لا شيء. لإخفاء تواطئها، ادعى الاتحاد الأوروبي التوصل إلى اتفاق إنساني، لكن ذلك لم يكن سوى مسرحية، فالمساعدات لم تتدفق، والحصار لم يُرفع. وكما أعلنت منظمة العفو الدولية: “إنها خيانة قاسية وغير قانونية للقانون والضمير وأوروبا نفسها”.
غزة: مرآة عار العالم
في خضم كل ذلك – القتل البطيء، ومهزلة الدبلوماسية – يُطلب منا الانتظار، والثقة بالمفاوضات. ولكن ما هو نوع العالم الذي يجعل إطعام الأطفال الجائعين موضوعًا للنقاش؟ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سُمح له بتحويل الغذاء إلى وسيلة ضغط، ومعاملة إغاثة السكان المحاصرين كجائزة يمكن مقايضتها. إن وصول المساعدات الإنسانية ليس منحة تُمنح، بل هو واجب يفرضه القانون. إن تأخير هذه القضية، ومناقشتها، وحجبها من أجل تحقيق مكاسب سياسية هو بمثابة تحويل الجوع إلى سلاح، وتحويل الدبلوماسية إلى شريك في جرائم الحرب.
ما يحدث في غزة يتجاوز جريمة الانتهاك للقانون إلى إلغائه. فهو ينتهك كل مبادئ الإنسانية، وكل معاهدة تدعي دعمها. لم يخذل العالم غزة فحسب، بل تخلى عنها. وبذلك، كشف عن نفسه. غزة ساحة للقتل ومرآة في انعكاسها نرى عار البشرية المطلق غير المزخرف.
إن ما يحدث في غزة هو اختبار حقيقي لما تبقى من ضمير إنساني وشرعية دولية. وفي ظل هذا الواقع المرير، يبدو أن البشرية تقف على مفترق طرق، فإما أن تستفيق وتستعيد قيمها ومبادئها، وإما أن تنجرف نحو هاوية الفوضى والعدم.