المنبر الاعلامي الحر

صنعاء تكتب معادلة الردع الجديدة.. الإسناد اليمني لغزة يتحول إلى قوة تغير وجه المنطقة

يمني برس | لم يكن موقف اليمن إزاء العدوان الصهيوني الهمجي على غزة مجرد تعاطفٍ أو دعمٍ شعاراتي، بل تحوّل إلى سياسةٍ واقعيةٍ ذات أبعاد استراتيجية: قرارٌ سياديٌّ، تصعيدٌ بحري وجوي مدروس، وتصنيعٌ محلي يواكب الميدان ويغير حسابات وموازين القوى في المنطقة.

 

فعلى مدى عامين من الإسناد المتواصل، نجحت صنعاء في أن تُحوِّل شعبًا محاصرًا إلى فاعلٍ حقيقي في معادلات المنطقة ومؤثّرٍ في توازنات النفوذ الإقليمي، وأن تُعيد تعريف آليات المواجهة من مجرّد ضرباتٍ إلى منظومة ضغطٍ متكاملة تُغيِّر قواعد اللعبة.

 

هذا التقرير يستعيد المسار، يشرح الأدوات، يقرأ النتائج، ويقدّم رؤية مُعمّقة لما ينتظر المنطقة إذا ما تمادى العدو أو تخلّف عن تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار.

 

اليمن في قلب المعركة: قراءة في منطق القرار والإسناد المستمر

منذ اللحظة الأولى اعتبرت القيادة الثورية والسياسية في اليمن أن ما يحصل في غزة لا يمكن أن يُفهم في سياق عدوان اعتيادي، بل هو امتحان لكرامة الأمة وهويتها.. لذلك لم تُقْسِم صنعاء موقفها على مجرد بيانات شجب، بل اتخذت قرارًا استراتيجياً بالتحول من التضامن الكلامي إلى الفعل المؤثر.

القرار هذا لم يولد في فراغ؛ هو نتاج تراكمات تاريخية وتجارب ميدانية: إدراك لعمق التهديد، وفهم أن الصمود يحتاج إلى أدوات، وأن التضامن الفاعل يترجم إلى سياسات تحاصر العدو وتكسر هامشيته الاقتصادية والاستراتيجية.

 

خطاب السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي الذي كرّر عبارة «لستم وحدكم» لم يكن مجرد خطاب عاطفي، بل مرآة لقرارٍ سياسي وعسكري واضح: اليمن ستكون ضامناً لمعايير تطبيق أي اتفاق، وستبقى يقظة وحازمة في حال خروقات العدو.

 

أدوات الإسناد: كيف حوّلت اليمن البحر والجو إلى ساحة ضغط؟

اليمن اتخذ ثلاثة مسارات متكاملة في الإسناد:

 

الطابع البحري والسياسي للضغط

اليمن وظّف موقعه الاستراتيجي عند مداخل البحر الأحمر وبوابة باب المندب لتحويل الملاحة إلى أداة ضاغطة. الحصار البحري الفعلي الذي فرضته القوات المسلحة — ليس مجرد تهديد نظري — أوقف حركة ميناء حيوي مثل أم الرشراش (إيلات) وعيّق مرور السفن المتجهة للكيان. الشركات العالمية أبلغت عن التغيّر في مسارات التجارة وارتفاع التكاليف، ما يضع الكيان في مأزق اقتصادي واستراتيجي يدوم طالما استمرت القدرة اليمنية على ضبط البحر.

 

العمليات البحرية المعلنة والسرية

سجل عامان من المواجهة: 346 عملية بحرية استُخدمت فيها زوراق هجومية ومصائد بحرية واستهدافات مباشرة للسفن المرتبطة بالعدو أو حلفائه. هذه العمليات لم تكن عشوائية؛ بل جزءَا من خطة متدرجة لإجبار السفن على الابتعاد أو تغيير مساراتها، ومعها فرض كلفة زمنية ولوجستية باهظة على اقتصاد الكيان.

 

القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة

اليمنيّون لم يكتفوا بالعمل البحري؛ بل دمجوا قدراتهم الصاروخية والمسيّراتية ضمن منظومة متسقة: 758 عملية عسكرية موثقة خلال عامين، استُخدمت فيها 1,835 صاروخًا ومسيّرة وزورقًا. الدفاعات أسقطت أو اشتبكت مع 22 طائرة من طراز MQ-9 في محاولات عدّة. تسجيل عمليات تصدٍ ناجحة والطيران المسير الذي اختبر منظومات الاعتراض المتطورة يشير إلى تطور ملحوظ في الخبرة الفنية والابتكار التكتيكي.

 

الصناعة المحلية والتطوير التقني: تجربة صقل القوة في الميدان

ما ميّز اليمن ليس الكمّ العملياتي فقط بل التزامه بتطوير الانتاج المحلي. تحت ضغط الحصار والعدوان نشأت سلسلة صناعات دفاعية وهجومية محلية الصنع: تصنيع الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، تصنيع طائرات مسيّرة ذات فعالية، وابتكارات في أنظمة توجيه تُظهر قدرة على تجاوز منظومات اعتراض قوية.. كل هذا يعد قفزةً نوعية تعيد كتابة معادلات الردع في المنطقة.

 

التطوّر التقني لم ينشأ في معامل منعزلة؛ بل هو ثمرة خبرة ميدانية متواصلة: اختبارات، تصويب أخطاء، تحديث بالاعتماد على اختبار الميدان، وتجهيز وتشكيل كوادر تقنية وطنية قادرة على الاستمرارية.

 

أثر الإسناد على العدو: اقتصاد مأزوم وأمنٍ مهتزّ

الضربات والضغط البحري والعمليات الجوية المتتالية أحدثت تأثيرات متعدّدة:

 

اقتصادياً: تعطل ميناء حيوي، تحويل مسارات تجارية، ارتفاع كلفة النقل والتأمين، عزوف شركات كبرى عن التعامل مع كيانات مهددة. كل ذلك يضغط على اقتصاد الكيان ويزيد أعباءه في الداخل.

 

عسكرياً: تبددت ثقة الكيان بقدراته الجوية والبحرية المطلقة؛ عمليات الصمود اليمنيّ أجبرت قوافل التسلح والدعم على إعادة نظر في مساراتها وتكتيك حمايتها.

 

نفسيًا وسياسياً: رسائل الردع اليمنية أعادت تعريف الخطر أمام القيادات الصهيونية؛ لم يعد السلوك التقليدي المتمادي دون ثمن ممكنًا بلا حساب.

 

التداخل الاستراتيجي: كيف أجبرت اليمن قوى كبرى على إعادة ترتيب أوراقها؟

تصاعد الضربات اليمنية على خطوط الملاحة الصهيونية أجبر واشنطن ولندن وحلفاء غربيين على تحويل أكثر وأغلب إمكاناتهم إلى حماية الملاحة بدلاً من أن يركزوا جهودهم لدعم العدوان البري على غزة.. هذا التشتيت في جهود التحالف الغربي هو أحد أهمّ مكاسب صنعاء: إذ لم يعد الخيار أمام القوى الداعمة للعدوان ألا تدفع ثمناً بالمكان والوقت والجهد.

 

الضغط البحري أيضاً خلط أوراق سلاسل الإمداد الدولية وأرغم شركات على فرض شروط تأمين أعلى، ما انعكس مباشرة على القدرة الاقتصادية للكيان وعلى حليفه الدولي.

 

المشهد الشعبي والسياسي الداخلي: الإسناد كإرادة وطنية جامعة

ما يغذّي قدرة اليمن على الاستمرارية هو التلاقي بين القرار الرسمي والوعي الشعبي: مسيراتٍ أسبوعيةٍ وملايين المواطنين الذين جعلوا من نصرة غزة مشروعًا جماهيريًا يمتد من القيادة إلى الشعب. هذا الدعم الاجتماعي يحوّل أي خيار عسكري إلى قرارٍ سياسي مدعوم وجذرٍ أخلاقي يجعل من أي تراجع أمراً صعباً داخليًا.

 

على صعيد المؤسسات، دمجت قيادة الجهد العسكري مع أطر سيادية وسياسية حافظت على وحدة القرار وقوته، ما أدّى إلى استدامة استراتيجية الإسناد وعدم فقدانها وسط ضغوط عديدة.

 

شروط اليمن للثقة في الاتفاق: وقف شامل أم تجارب مرّة؟

اليمن يشترط على وقف النار أركانًا واضحة: وقف شامل ومستدام، رفع الحصار، فتح المعابر بآليات عملية، وإطلاق الأسرى. أي محاولة للالتفاف على هذه المعايير أو ربطها بمطالب مُسقطة كالتسليم الفوري لجثث تحت الأنقاض سيُفسّر كاستفزاز ويمهّد لرد يمنّي أقسى.

القيادة اليمنية، بناءً على تجربة سابقة، لا تقبل بـ«تهدئةٍ شكلية» تُعيد العدو الصهيوني إلى مربع التحضير لاعتداء جديد، وهي مصممة على أن تكون المراقب والضامن لالتزام الطرف الآخر.

 

سيناريوهات المستقبل المحتملة وتداعيات كلٍ منها

الالتزام الكامل: وقف شامل، فتح معابر، وإطلاق أسرى يليه فُسحةٌ زمنية للاستقرار وإعادة إعمار، هذا هو المطلوب، لكن اليمن يظل مراقبًا جاهزًا.

 

المراوغة والخروقات: خروقات متفرقة أو تكتيكات ابتزازية (ربط المعابر بجثث أو مزاعم) سيؤدي إلى ردّ تصاعدي من اليمن قد يمتد جغرافيًا ويستهدف شرايين العدو الاقتصادية.

 

التجاهل الدولي وانحياز القوة الداعمة للمخالف: استمرار إفلات المجرم من العقاب سيسفر عن مزيد من التوترات والاحتكاكات ويدفع اليمن لمحور تأثيرٍ أوسع ومدة أطول من المواجهة.

 

كل سيناريو له تبعاته على الحسابات الإقليمية والدولية، ومفتاح التوازن يكمن في مدى جدية المجتمع الدولي في فرض التزامات تنفيذ الاتفاق.

 

قراءة في البُعد الأخلاقي والسياسي: اليمن كضمير للأمة

اليمن لم يقدّم دعمه كرسالةٍ إقليمية فحسب، بل كرّس نفسه رأس حربة لِما يعتبره واجبًا أخلاقيًا ودينيًا: حماية المدنين والمستضعفين.. هذا البُعد الأخلاقي هو ما يُكسِب التصعيد اليمني شرعية واسعة داخل قطاعات كبيرة من رأي الأمة، ويحوّل مخاطره العسكرية إلى معادلة معنوية تضاف إلى أدوات القوة الميدانية.

 

هل غيّرت اليمن قواعد اللعبة؟

الإجابة: نعم، على نحوٍ بالغ.. اليمن اليوم ليس مجرد طرف داعم؛ بل محور تأثير قادر على إعادة تشكيل سلوك العدو وتعديل حسابات القوى الدولية.. فمن جعل البحر ساحة ضغط على العدو وصولاً إلى صناعة صواريخ باليستية وفرط صوتية تخترق منظومات دفاع متطورة، أثبتت صنعاء آنها وضعت تصوّرًا عمليًا جديدًا لقوةٍ صاعدة تنجح في إحداث أثرٍ عميقٍ في ميزان القوى الإقليمي.

 

وإذا ما واصل العدو مراوغاته، فالمشهد القادم لن يكون محصورًا في غزة وحدها بل سيمتد ليشمل الجوار والبحار والممرات والتوازنات الدولية.

 

بين الشعارات الفارغة والأفعال المُلزمة

في لحظةٍ اتسعت فيها الهوّة بين الشعارات الفارغة والأفعال المُلزمة، اختارت اليمن طريق العمل والاقتدار.. لم يكن الإسناد مجرد رد فعل عاطفي، بل كان مشروعًا يعتمد على سيادة القرار، وسلاحَ العقل، والإيمان الذي يعطي الفعل عمقه.

 

واليوم، بينما يراقب الشعب اليمني اتفاق وقف النار بعينٍ لا تثق إلاّ بالأفعال، فإن يده على الزناد ليست تهديدًا عابرًا، بل حِمايةٌ لكرامة الأمة وسندٌ لمن تكالبت عليه المؤامرات.. والفصل القادم في هذه المعادلة سيكتب على أرض الواقع لا في بياناتٍ جوفاء؛ فاليمن أثبت أن القوة الحقيقية تُبنى بالتصميم والإعداد، وأن النصر في زمننا هذا يُقاس بمدى قدرة الأمة على ترجمة العدل إلى فعل.

نقلا عن 21 سبتمبر

Comments are closed.