باتت التقارير الدولية تحاول فهم المعادلة التي أمكن لليمن النهوض بالاستناد عليها، والخروج من قيود عدوان الثمان سنوات إلى التحدي ومواجهة القوة العالمية الأمريكية، وتواصل هذه التقارير المستمرة -وبمختلف لغات العالم- الرصد والتخليل للتجربة اليمنية في الثبات أمام التحديات الكبيرة التي تقف خلفها أمريكا.
فاليمن كما تخلص هذه التناولات، لم يعد مدافعا فقط عن سيادته، بل ومهاجما ضد قوى الاستكبار التي تحاول ترسيخ معادلة الاستباحة للشعوب العربية ونهب خيراتها. وعليه صارت عمليات الرصد والتحليل تحسب خسائر هذه القوى التي تتصدرها أمريكا والكيان الإسرائيلي، سواء في استهدافها اليمن، أو بتسببها في تحركه بقواته المسلحة إلى آفاق واسعة من الاستهداف.
في كيان العدو، حدد اليمن لعملياته بنك أهداف بسقوف مفتوحة باتت محرجة للأعداء، وصلت إلى حد محاصرة الكيان، وتضييق حركة البحرية الأمريكية في البحر الأحمر، في مشاهد متكررة لم يشهد لها تاريخ الصراع العربي مع القوى الامبريالية مثيل.
وفي كل مرة تأتي بيانات القوات المسلحة لتؤكد على أن الفعل اليمني المساند لفلسطين مستمر بلا أي خطوط، حتى مع تنفيذ الأعداء هجمات جبانة على المنشآت المدنية في اليمن، يبقى مسار الدفاع عن النفس والانتصار لمظلومية الفلسطينيين أمرا ثابتا غير قابل للمقايضة بأي حال. هذا الحضور البارز الذي صار يمثله اليمن أصبح يدفع الكثير إلى تقزيم المستوى الذي صار عليه الأمريكي والإسرائيلي عند الحديث عن المواجهة مع اليمن وما آلت إليه أو ما تحققه من نتائج، ففي الإعلام الروسي يبرز التأكيد على نجاح اليمن في الرد وكبح جماح القوة الأمريكية بالنظر إلى الحجم وطبيعة القدرات العسكرية بين صنعاء وواشنطن.
فمجلة “فوينيه أوبزرينيه” الروسية المتخصصة في الشؤون العسكرية تصف الجيش الأمريكي بأنه “الأعظم في العالم”، لكنها أيضا ترى انتكاسته بعد أن تحرك ضد اليمن بناء على توجيهات ترامبية صارمة، وتذكر المجلة أن “ترامب كان قد أصدر أوامر في مارس الماضي بتنفيذ عملية عسكرية كاسحة ضد اليمن، تضمنت تحريك مجموعتين من حاملات الطائرات الأمريكية إلى البحر الأحمر، بالإضافة إلى أسراب من القاذفات الاستراتيجية، بهدف تدمير البنية التحتية الصاروخية لقوات صنعاء خلال 30 يومًا.”

اليمن يضع حدا للشطحات الأمريكية

التحرك بهذه القوة والعتاد والخطة المدروسة والمحددة زمنيا، لا شك بأنه أعطى المعركة زخما وأهمية أكبر، ربما تعمد ترامب حينها تضخيم مناخات الحملة، بقصد إرهاب اليمنيين إلا أن الأمر ارتد عليه، فصار يمثل واحدا من مؤشرات التراجع. إذ رغم هذا الإعداد، إلا أن الزمن تمدد أكثر فأكثر حتى صار مجهولا كيف يمكن تحديد سقف له، وبالتزامن غفلت الحسابات الأمريكية عن رد الفعل اليمني، ليأتي الأمر بالفعل كاسحا، ولكن في اتجاه وضع حد للشطحات الأمريكية التي لا تزال تركن إلى تلك الهالة التي زرعتها في نفوس العالم عن قدرتها المطلقة في ضرب أي مكان من العالم وفرض إرادتها بالقوة.
ومثّل الانسحاب الأمريكي وإعلان وقف إطلاق النار شاهدا قويا للمنصات الإعلامية والبحثية على أن ما خاضته أمريكا في عدوانها على اليمن وتلقيها للضربات الانتقامية كانت بالفعل مغامرة فاشلة، والاستمرار فيها كان يمكن أن يسفر عن نسف نهائي للتأثير الذي كان يُحدثه الحضور الأمريكي، فاليمن لم يكن فقط قادرا على امتصاص آثار الهجمات العدوانية التي كشفت جُبن العدو لاستهدافه الأعيان المدنية، وإنما كان مهاجما بتكتيكات لافتة اتسمت بالتفوق، وبالسخرية من المنظومات الدفاعية الأمريكية والإسرائيلية.
يؤكد تقرير بريطاني نشره موقع “ميدل إيست مونيتور” أن انسحاب أمريكا من المعركة “أعاد رسمَ موقع اليمن في خارطة التوازنات الإقليمية؛ إذ أثبت اليمنُ أنه لم يعد مُجَـرّد قوة محلية يدافع عن حدوده، بل أصبح فاعلًا إقليميًّا قادرًا على التأثير المباشر في معادلات الأمن البحري والتجارة الدولية“.
التقريرُ البريطاني أكد أيضا أن “إعلانَ واشنطن وقفَ العدوان منح اليمنيين دفعةً سياسيةً ومعنويةً كبيرةً، ورسّخ صورتهم كقوةٍ ذات قدرة عالية على خوض معاركَ مركَّبة وتتحدى هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها”.

وقائع الأرض تكذّب ترويجات العدو

التسليم بأن المعركة جلبت لأمريكا الخزي وساهمت في ظهور قوة فاعلة، قد سرّب بدوره أيضا القناعة داخل أمريكا والكيان بأن اليمن ليس بتلك السهولة التي تصورها ترامب ومؤسسته العسكرية، فثمة قوة غير القدرات العسكرية هي التي تمنحه هذا التمكين في المواجهة وتجاوز آثار الهجمات على منشآته، والحفاظ على الروح المعنوية العالية والوثّابة، ما يجعل أمر السيطرة عليه واستعادة القدرة في التحكم بحركة الملاحة في البحر الأحمر، وتمكين العدو من مواصلة جريمة التمدد ابتداء من غزة، أمرا مستحيلا، إنها قوة الإيمان لو أنهم يفقهون.. تؤكد صحيفة “جلوبس” العبرية أن الغارات الجوية التي شنّها جيش العدو الإسرائيلي على اليمن -وآخرها الهجوم واسع النطاق على ميناءي الحديدة والصليف- لم تُضعف اليمنيين كما كان متوقعًا، بل ساهمت في تعزيز تماسكهم الداخلي. كما أكدت الصحيفة بأن “صناع القرار في “تل أبيب” ظنّوا أن استهداف البنية التحتية ومصادر الإمداد سيُضعف موقف صنعاء، إلا أن الوقائع على الأرض تكذب هذا التصور، حيث أظهرت القوات اليمنية قدرة متقدمة على تجاوز آثار القصف ومواصلة الرد بشكل منظم.” حسب الصحيفة.
ومع تلاشي أمل العدو في الحصول على نتائج، تراجعت الخيارات العسكرية، ما مثّل له نكسة أخرى، حيث ترى الصحيفة أنه “لم يعد أمامه سوى مسارين: إما التوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة وهو ما قد يؤدي إلى تهدئة الجبهات بما فيها الجبهة اليمنية، أو الاستمرار في القصف الذي لا يؤدي إلا إلى تصليب الموقف اليمني وتعزيز مكانة أولئك الذين يتحدّون الغارات بدلًا من الانهيار تحتها.”
قبل أيام ايضا اعترف العميد تسفيكا حايموفيتش القائد السابق لسلاح الدفاع الجوي في “جيش” العدو الإسرائيلي بعجز “إسرائيل” عن تحقيق أي نصر عسكري على اليمن، مشبّهًا هذا العجز المستمر بفشل الاحتلال في كسر شوكة المقاومة الفلسطينية وخاصة حركة حماس في قطاع غزة.

عدوان بلا رؤية وبلا جدوى

بل إن الهجمات العدوانية وظهور عدم جدواها سرّبت حالة من الإحباط في أوساط العدو، ما جعل التحليلات العسكرية تتجه باتجاه عكسي لتشكك في أهدافها، ولتؤكد غياب الرؤية من هذه الهجمات، ما يجعلها عقيمة وبلا جدوى.
ويرى الكاتب الصهيوني ” شموئيل إلماس” في تقريره لصحيفة “جلوبس” أن الهجوم الأخير الذي شاركت فيه 15 طائرة مقاتلة ونفذت عشرات الضربات الجوية بعد قطعها مسافة تجاوزت 2000 كيلومتر، تم تقديمه في الأوساط العسكرية الإسرائيلية على أنه “إنجاز تقني، لكنّه يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية”.
من هنا تعقدت عملية استهداف مقومات القوة اليمنية، لتتنامى أفقيا ورأسيا، بحيث أصبحت من تفرض صيغة أي اتفاق، كما لوحظ مع أمريكا التي انصاعت في اتفاق وقف إطلاق النار مع اليمن، لفصل العمليات ضد الكيان الصهيوني، وكما تجلى بإدخال القوات المسلحة لميناء حيفا ضمن قائمة الأهداف، ليصير الكيان مكشوفا من أي حماية.. يقول موقع “إسرائيل ديفينس” إن “الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية اليمنية – التي تُقدر مدياتها بين 1600 و2000 كيلومتر – ما زالت تطلق باتجاه “إسرائيل” رغم تعزيز منظومة الدفاع الجوي بمنظومة “ثاد” الأمريكية إلى جانب “آرو” الاسرائيلية”.

القوة اليمنية في مستوى التأثير

تناوُل التجربة العسكرية اليمنية في مواجهة الطاغوت الأمريكي لفت أنظار العالم أيضا إلى أن اليمنيين قد أخذوا على عاتقهم أن يعدّوا العدة مستفيدين من التقنية التكنلوجية، ثم بلغ بهذا العالم إلى القناعة بأن اليمن بالفعل وصل إلى مرحلة تجعل منه قوة مؤثرة عمليا، وهو ما جرى ملامسته في عميات القوات المسلحة التي ظهرت كأمر إعجازي، تقطع الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة ما يزيد عن الـ(2000) كيلو متر لتضرب عمق العدو، كما تتجاوز أسطورة القوة البحرية الأمريكية وأنظمتها الدفاعية، وتضرب أساطيلها، وتجبرها على الفرار، فضلا عن إسقاط الطائرات.. لذلك يرى  العميد “تسفيكا حايموفيتش” القائد السابق لسلاح الدفاع الجوي في “جيش” العدو الإسرائيلي بأن القوات اليمنية حققت تقدما كبيرا في المجال الصاروخي. ويُسلِّم حايموفيتش بأن القوات اليمنية أصبحت تمتلك قدرة تصنيع ذاتي لصواريخ باليستية متقدمة تُطلق اليوم من الداخل اليمني نحو أهداف في عمق الأراضي المحتلة.. ويزيد “حايموفيتش” على ذلك بالتأكيد على أن هذه الصواريخ لم تعد مستوردة أو تعتمد على دعم خارجي مباشر، بل تُنتج محليًا بعد سنوات من التعلم والتطوير الذاتي