المنبر الاعلامي الحر

محاكم الوقف والزراعة بين التنظيم القضائي والتعديل التشريعي: قراءة نقدية في ضوء المادة (91) من قانون المرافعات

يمني برس | بقلم:ا لمحامي والمستشار القانوني أحمد توفيق جحاف

 

في خطوة لافتة، صدر مؤخراً قرار فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى رقم119 لسنة 1446هجريه بإنشاء محكمة متخصصة بنظر قضايا الوقف، بعد أن سبقه قرار مماثل بإنشاء محكمة متخصصة في قضايا الزراعة. هذه الخطوة، وإن كانت تحمل طابعاً تنظيمياً يهدف إلى الارتقاء بكفاءة الأداء القضائي في منازعات فنية أو شرعية متخصصة، إلا أنها تطرح تساؤلات قانونية جوهرية حول مدى جدواها وفعاليتها في ظل البنية التشريعية النافذة، وعلى وجه التحديد في ضوء التعديل الأخير الذي طرأ على المادة (91) من قانون المرافعات.

 

حيث تنص المادة المذكورة – بعد تعديلها – على أن:

“مع مراعاة ما ورد في قانون السلطة القضائية، لا يُعدّ الاختصاص النوعي أمام المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة، فيما يُرفع أمامها من الدعاوى، من النظام العام. فإذا دُفع أمام المحكمة بعدم الاختصاص بحسب نوع الدعوى، يجب أن يكون الدفع قبل الخوض في موضوع النزاع، ويُفصل فيه أولاً، وتُحدّد المحكمة المختصة والجلسة المحددة لنظرها.”

 

وبتأمل هذا النص، يتضح أن المشرّع أخرج مسألة الاختصاص النوعي من نطاق النظام العام – فيما يتعلق بالمحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة – وهو ما يعني أن سكوت الخصوم عن الدفع بعدم الاختصاص، أو إثارته بعد التطرق إلى موضوع النزاع، يؤدي إلى استقرار الاختصاص للمحكمة المنظور أمامها، حتى وإن لم تكن هي المحكمة “المتخصصة”.

 

ومن ثم، فإن المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة قد تظل مختصة بنظر قضايا الوقف أو الزراعة، ما لم يُدفع أمامها بعدم الاختصاص النوعي في الوقت القانوني المناسب. وهذا يفضي إلى نتيجة مؤداها أن إنشاء محاكم متخصصة في الوقف أو الزراعة لا يُنتج – في ظل هذا التعديل – أثراً قانونياً ملزماً من حيث انعقاد الاختصاص الحصري لتلك المحاكم، ما لم يُقرن بجهد تشريعي يُعيد توصيف طبيعة هذه الدعاوى ويمنح تلك المحاكم اختصاصاً نوعياً حصرياً.

 

وهنا تبرز إشكالية جوهرية، وهي أن التوسع في إنشاء محاكم متخصصة – دون تعديل النصوص الناظمة للاختصاص النوعي – يُفرغ تلك المحاكم من مضمونها كجهات “متخصصة” من حيث الواقع العملي، ويجعلها مجرد دوائر إدارية لا تتمتع بولاية قضائية حصرية، مما قد يفضي إلى تضارب في توزيع القضايا، وإرباك في التنظيم القضائي.

 

ولما كان ذلك، فإن نجاعة هذه الخطوة تتوقف على معالجة تشريعية أعمق، تتمثل في ما يلي:

 

1. تعديل المادة (91) من قانون المرافعات، أو إصدار نصوص موازية تُقر بأن الاختصاص النوعي في بعض الدعاوى – كالوقف والزراعة – من النظام العام، بما يمنح المحاكم المتخصصة ولاية قضائية إلزامية.

 

 

2. إعادة تصنيف بعض المنازعات بأنها ذات طابع فني أو شرعي خاص، مما يستدعي إخضاعها حصراً لقضاء متخصص، يتمتع بقضاة ذوي تكوين شرعي أو فني يتناسب مع طبيعة تلك القضايا.

 

 

3. ضمان استمرارية التخصص القضائي من خلال تأهيل القضاة فنياً وشرعياً، وربط حركة النقل والندب القضائي بطبيعة التخصص، بحيث لا يتم نقل القاضي إلى محكمة ذات اختصاص مختلف جذرياً عن طبيعة خبرته وتكوينه.

 

 

 

كما ينبغي التأكيد على أن فكرة التخصص القضائي – رغم وجاهتها وضرورتها – لا تُؤتي ثمارها إلا في إطار تشريعي ومؤسسي متكامل، يضبط العلاقة بين المحاكم العامة والمحاكم المتخصصة، ويُجنّب الجهاز القضائي الوقوع في إشكالات تعارض الولاية القضائية أو تضارب الأحكام.

 

إن تطوير القضاء لا يقتصر على إنشاء محاكم أو إصدار قرارات تنظيمية، بل يتطلب إعادة نظر شاملة في البنية التشريعية الناظمة للاختصاص، من حيث النوع والحصر، بما يكفل عدالة متخصصة، وسرعة في البت، وفاعلية في التنفيذ، وهي الأهداف التي لا تزال بعيدة المنال ما دامت النصوص المانحة للاختصاص لا تواكب الخطوات التنظيمية الطموحة.

 

والله من وراء القصد.

 

 

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com