الهروب من أرض الميعاد.. خيارات اليهود بين اليوتوبيا المفقودة والأمان المنشود
عبد الرحمن العابد
شاهد العالم بأسره فرار أعداد كبيرة من اليهود -يُقدّر العدد بعشرات الآلاف- إلى خارج الكيان نتيجة الحرب التي دارت مع إيران، والصواريخ التي صاحبتها وانهالت على أجزاء واسعة، وخاصة تل أبيب وحيفا وغيرها من المدن.
بين عامي 2019 و2022، شهد الكيان زيادة ملحوظة في عدد اليهود الذين اختاروا مغادرته، حيث تشير التقارير إلى أن حوالي 30,000 شخص غادروا خلال تلك الفترة بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة.
والرقم المتوقع حالياً من الفارين قد يكون أضعاف ذلك، إذ شهدت اليونان وحدها وصول نحو مائة ألف يهودي خلال فترة لا تتجاوز اثني عشر يوماً.
الآن، بعد أن تم إيقاف إطلاق النار بين إيران والكيان، يُفترض أن يعودوا، أليس كذلك؟
لكن لا يوجد أي أخبار عن عودة أحد منهم، ومن المتوقع أن من سيعود بعد شهور طويلة قد لا يتجاوز 10% من الذين غادروها. لماذا؟
تأسس الكيان على فكرة إنشاء دولة خاصة تُعبر عن الهوية اليهودية، مما يطلق عليه “شعب الله المختار”.
هذه الدولة، التي يُنظر إليها في الفلسفة على أنها “يوتوبيا”، وُعدت بأن تكون مكاناً ينعم فيه الجميع بالتناغم والسلام والرفاهية.
على سبيل المثال ولتوضيح الفكرة أكثر، كانت عملية ترحيل اليهود من اليمن إلى الكيان، المعروفة باسم عملية “بساط الريح” في أربعينيات القرن العشرين، توصف برحلة “الأحلام الوردية”، ما يعكس الآمال الكبيرة التي وُعد بها المهاجرون.
لكن كل تلك الوعود والأماني قد انكسر الآن، وتحولت الأحلام إلى رماد منذ 7 أكتوبر في عملية “طوفان الأقصى”، وما تلاها من استهداف للكيان من اليمن ولبنان والعراق لفترة معينة، ثم مواصلة اليمن منفردة بتوجيه ضربات صاروخية والإعلان عن فرض حظر بحري وجوي.
وأخيراًجاء القصف الصاروخي المزلزل من إيران على الكيان بمثابة الخاتمة الصادمة، حيث دك عاصمة بشكل غير مسبوق منذ تأسيس الكيان عام 1948.
كانت دراسة من جامعة تل أبيب أظهرت أن 40% من الشباب اليهود في الكيان يفكرون في الهجرة بسبب القلق من الحرب وغياب الأمن الشخصي.
وكل يهودي يعيش في الكيان هو في الأصل مزدوج الجنسية، حيث قدموا إلى ما يسمى إسرائيل من بلدان عديدة، لا زالوا يحرصون على جنسياتهم السابقة، مما يعكس عدم الشعور بالأمان. والأحداث الأخيرة عززت من تفكيرهم في الهجرة بشكل كبير.
يتساءل الكثيرون منهم: لماذا البقاء في أوضاع كهذه؟
لماذا لا يعودون إلى ألمانيا أو فرنسا أو حتى جورجيا أو روسيا، بولندا، رومانيا، أو التشيك، حيث سيتمتعون بحياة طبيعية أفضل؟
في ألمانيا، على سبيل المثال، تعتبر تكاليف الرعاية الصحية أقل بكثير مقارنة بإسرائيل، والنظام الصحي هناك أفضل وله سمعة عالمية.
تلك الدول توفر أيضاً رواتب مرتفعة، ولا تعاني من الحروب أو القصف، أو صفارات الإنذار التي تؤرق حياتهم ويريدون المغادرة.
نظرية التفوق والجيش الذي لا يُقهر التي قام عليها الكيان وظل يرسخها سقطت للأبد،واكتشفت دول المنطقة أنها كانت تبالغ في تقدير قوة الكيان.
والدمار الذي لحق بمدنهم سيتكرر في أي حرب يخوضونها مستقبلاً. كما أن الحصار البحري الذي فرضه اليمن لا يزال مطبقاً في البحر الأحمر، وميناء أم الرشراش “إيلات” مغلق نتيجة لذلك الحصار.
في ظل هذه الظروف، يتزايد الانقسام السياسي داخل إسرائيل، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن 60% من السكان يشعرون بعدم الأمان بشأن المستقبل. وبدلاً من عودة الذين غادروا، تختار المزيد من العائلات مغادرة الكيان والاستقرار في دول أخرى، مما يعكس تحولاً جذرياً في التفكير.
الأمر لا يقتصر على جانب اقتصادي وفقدان الأمان، بل يمتد أيضاً إلى نظرة شعوب العالم إلى إسرائيل، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر وما تلاها من جرائم الإبادة الجماعية في غزة.
هذه النظرة السلبية انعكست على نفسية اليهود ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، حيث يجدون أنفسهم في موقف دفاعي عن تصرفات حكوماتهم حتى عجزوا عن التبرير.
هذه الضغوط النفسية تجعلهم يتساءلون عن هويتهم في عالم ينظر إليهم بشكل متزايد كمجرمين، حتى وصلت الأمور إلى حد تعرضهم للطرد من المطاعم والشتائم في الأماكن العامة والملاحقة في المطارات والموانئ.
#نصر_وثبات