أبو عبيدة… غزة تنزف عزاً
يمني برس || مقالات راي:
«أربعة أشهر من الدم والخذلان.. وأبو عبيدة يطلّ من قلب النار، لا ليعدّ الشهداء، بل ليصفع صمتًا عربيًا مخزيًا، وليُعلي صوتًا من تحت الركام: نحن هنا، لا نركع.»
بصوت يقطر مرارة، وعينين تغليان بالحق، جاء خطابه صاعقًا للضمائر، عاصفًا على هوان المواقف. لم يكن بيانًا عاديًا، بل صرخة من قلب المجزرة، تفضح صمت الأنظمة، وتوبّخ عجز النخب، وتجلد تقاعس العلماء. لم يترك لأحد عذرًا… حمّل الجميع المسؤولية، بلا استثناء، بلا مواربة.
في هذا الخطاب، لم يكن أبو عبيدة مجرد ناطق عسكري، بل تجلّى كصوت الضمير، وصدى الشهداء، ونداء الأمة من تحت الركام: «لن نعفي أحدًا من دماء أطفالنا، فالصمت خيانة، والخذلان جريمة.»
تحدث عن مقاومة تعيد تعريف عقيدة القتال… تبدأ من الصفر، تُحفر الأرض بأظافرها، وتباغت العدو من قلب الظلال. مقاومة لا تهدأ، لا تنكسر، تخوض معركة استنزاف مفتوحة، وترسم ملامح «مقتلة محكمة»، أعينها على الجنود، وأملها في الأسر، وردّها ناري لكل محاولة إبادة.
«وإن أصرّ العدو على المضيّ في جريمة الإبادة، فليهيّئ نعوش ضباطه وجنوده…»
هكذا أعلنها أبو عبيدة، بلا تردد، بلا رتوش.
المقاومة تفاوض… نعم، لكنها تفاوض من فوق الركام، بيدٍ تمسك البندقية وأخرى تمتد بالعرض الأخير: صفقة شاملة لا تتكرر. وقد أنذر: إن تعنّت العدو، فلن تكون هناك عودة لصيغة الأسرى العشرة، ولا للجزئيات. غزة تفاوض من موقع القوّة، لا الاستجداء.
الخطاب جاء حازمًا، زلزاليًا، في توقيت بالغ الدقة، وضع النقاط على الحروف، وعرّى الضبابية التي حاول العدو تسويقها في محادثات مأزومة. كان رسالة للعدو، ولمن خلفه: المقاومة تملك زمام المبادرة، وهي ليست مجرد تنظيم، بل مدرسة عسكرية عالمية، تُعيد اختراع فن القتال، وتُربك جيوشًا مدججة، وهي اليوم على أعتاب معادلة جديدة: «الدم بالدم، والأسر بالأسر، والكرامة لا تقايَض.»
لكن أبلغ ما في الخطاب، لم يكن التهديد للعدو، بل العتب المرّ على «الأشقاء» الذين تحوّلوا إلى شهود زور على مجزرة العصر. وقف أبو عبيدة بلسان المجازر، يوبّخ العواصم المتواطئة، والأنظمة التي طبعّت، والهيئات التي ناصرت بالكلام ثم صمتت في ساعة الحسم. لم يكن صراخه استغاثة، بل مرافعة أخلاقية، كتبها بدم الأطفال، وأطلقها في وجه كل من خذل أو خان أو تواطأ بالصمت.
«من رأى المجازر وسكت، شريك في الجريمة… ومن امتلك وسيلة للفعل ولم يتحرك، خان الله والتاريخ.»
هذا الخطاب لم يسقط القناع عن العدو، بل أسقطه عن وجوه كثيرة في الجغرافيا العربية والإسلامية. أنذرهم بلسان الأحرار: لا حياد في هذه اللحظة، إمّا أن تكون مع دماء غزة، أو مع الطاعنين في خاصرتها.
ومن بين لهب الكلمات، رفع أبو عبيدة تحيةً تليق بالأحرار، من اليمن الصابر، إلى أنصار الله، إلى أحرار العالم الذين كسَروا الحصار بأجسادهم. ثم توجّه بتحية خالدة لأهل غزة، مقبِّلًا رؤوسهم فردًا فردًا، رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا، قائلاً:
«أنتم العزّ الذي لا يُقهر، والدرع الذي لا يُثلم. أنتم الحكاية التي لن تنتهي، والراية التي لا تنكس.»
وفي ختام المشهد، جاء صوت أبو عبيدة كأنه يقرأ تعويذة المقاومة الأخيرة…
صوتٌ لا يلين، عتبٌ لا يُداوى، وخطابٌ هو في جوهره نداء استنهاضٍ للأمة جمعاء، بأن تنزل الجماهير إلى الساحات، أن تتفجّر الأصوات في وجه الصمت، وأن تعود فلسطين إلى قلب الشارع لا إلى هوامشه.
لقد قالها بصوت لا لبس فيه:
«المقاومة مستمرة، الحصار لن يكسرنا، والخذلان لن يُطفئ جذوتنا. هذه غزة… تنزف عزًا، لا تستسلم، ولا تسكت. وإن كانت وحدها، فإنها تكفي.»
رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات
بقلم/ د. محمد المدهون*