غزة تعزز صمود “حجارة داوود” وتكشف هشاشة “عربات جدعون”!
مع تصاعد وتيرة المواجهة في قطاع غزة، تتكشف أبعاد وتداعيات تتجاوز حدود الجغرافيا الفلسطينية، وتلقي بظلالها على المشهد السياسي العالمي. ففي ظل استراتيجية المقاومة الفلسطينية، ممثلة في كتائب القسام وسرايا القدس (حجارة داوود)، تتجلى حقيقة أن الشعب الفلسطيني لن يستسلم أبداً، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع خطة جيش الاحتلال الصهيوني (عربات جدعون) التي تهدف إلى إخضاع غزة وتجريدها من إرادتها. تلك الحقيقة المدعومة بتصريحات عسكرية إسرائيلية تكشف عن حجم التضليل الذي يمارس على الجمهور الإسرائيلي، مع توقعات بأن الصراع قد يمتد لسنوات طويلة.
يمني برس | يحيى الربيعي
الأكاذيب تنهش الرواية الإسرائيلية
في أغوار ميدان المعركة الدائرة، تتجلى صورة مشوشة للواقع، فبينما يصر قادة الاحتلال على تحقيق “النصر الوشيك”، يخرج صوت من داخل المؤسسة العسكرية ليقلب الطاولة على هذه الرواية. لقد حذر قائد عسكري إسرائيلي رفيع المستوى، في مقابلة مع موقع “واينت”، من أن الجمهور الإسرائيلي “يتلقى أكاذيب” بشأن التقدم المحرز ضد حماس، هذا الضابط الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد أن تفكيك حماس مهمة “شاقة” قد تستغرق ما يصل إلى خمس سنوات، وأن الجيش يحتاج إلى العودة إلى غزة “لجز العشب” باستمرار.
هذه التصريحات لم تكن رأي فردي، وإنما اعتراف صريح بأن الدعاية الموجهة للجمهور الإسرائيلي مضللة، وأن حقيقة الوضع على الأرض تختلف جذرياً عما يتم تصويره. وأوضح القائد أن حماس لا تزال تحتفظ بـ”بنية تحتية ضخمة” في غزة، وأن المعركة لم تنتهِ بعد، بل هي “معارك مستمرة، تماماً كما هو الحال في الضفة الغربية المحتلة”. وهذا الكشف ينسف الصورة التي يحاول جيش الاحتلال رسمها عن إنجازات كبيرة في قتل المقاتلين وتدمير الأنفاق، ويؤكد أن حماس لا تزال صامدة وقادرة على القتال وتحقيق الانتصارات على الميدان، وإن كانت قدراتها القيادية والسيطرة محدودة ومتضررة.
بطء التقدم وخيبة أمل ترامب ونتنياهو
يشير تقرير “واي نت” إلى بطء التقدم العسكري منذ أن خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار واستأنفت الحرب على غزة في 18 مارس/آذار. ورغم ادعاء الجيش نشر ما بين أربع إلى خمس فرق، فإن عدد الجنود المشاركين في القتال المباشر محدود، وتتركز غالبية المعارك على مشارف المدن الكبرى. وقد صرح ضابطان كبيران للموقع: “نحن نتقدم ببطء شديد، وبشفافية شديدة، وبطريقة ملتوية”.
في هذا السياق، يٌظهر التقرير خيبة أمل كبيرة لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اللذين كانا يأملان في استسلام الفلسطينيين. كما أكد الكاتب عزام التميمي في مقاله بتاريخ 20 مارس 2025 في نفس الموقع أن “ليس أمام الفلسطينيين خيار سوى مقاومة الاحتلال ومواصلة نضالهم من أجل الحرية والتحرر”. وأوضح أن إسرائيل، بموافقة ودعم كامل من إدارة ترامب، تسعى لإجبار الشعب الفلسطيني على الاستسلام، ولكن “لن يحدث ذلك أبداً”. فالقضية الفلسطينية في ذاكرة الفلسطينيين ليس عبارة صراع على حكم غزة، وإنما “قضية وطن اغتصب واحتل من قبل عصابة فاشية”، مؤكداً أن الشعب الفلسطيني يدرك أن فلسطين هي أرض أجداده، ولا يوجد خيار لاسترداده سوى المقاومة.
لماذا لن تستسلم غزة دروس من المقاومة
يتساءل ديفيد هيرست في مقاله بتاريخ 22 أبريل 2025: “لماذا لن تستسلم غزة؟”. ويجيب بأن “حجم المعاناة التي فرضتها إسرائيل على جميع الفلسطينيين في نطاق سيطرتها يعني أن مصير غزة أصبح مصير فلسطين أيضاً”. فبعد 15 شهراً من الحرب والإبادة الجماعية، فشلت إسرائيل في إرغام شعب غزة على الركوع. محاولات العقاب الجماعي، وتهديدات الطرد الجماعي، وفرض التجويع، وتدمير المستشفيات والمدارس ومجمعات الأمم المتحدة، وقتل نحو قرابة 200 ألف شخص، جلهم من النساء والأطفال كلها لم تحقق أياً من الأهداف المعلنة للحرب.
يرفض الكاتب الاعتقاد بأن قادة حماس سيأخذون الأموال ويهربون، مؤكداً أن هذا يكشف عن مدى قلة فهم نتنياهو لعدوه. فالعرض الإسرائيلي الأخير كان بمثابة استسلام، حيث طُلب تسليم جميع الرهائن مقابل 45 يوماً من الطعام والماء ونزع سلاح المقاومة. لكن حماس ردت بأنها مستعدة لإطلاق سراح جميع الرهائن مقابل عدد من السجناء ووقف إطلاق نار طويل الأمد، ولم تتراجع عن شرطيها في حق التمسك بالسلاح والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية وإنهاء الحرب.
يكمن السبب الرئيسي لعدم استسلام حماس، حسب هيرست، في كونها تمثل بالنسبة للعديد من الفلسطينيين فكرة لن تموت أبداً. لقد أصبحت غزة “أرضاً مقدسة” للفلسطينيين في كل مكان، ولا توجد عائلة في غزة لم تفقد أقاربها أو منازلها. إن حماس وفصائل المقاومة الأخرى لا يمكن فصلها عن الشعب الذي تقاتل من أجله، ومع تزايد المعاناة الجماعية، تزداد الإرادة الجماعية للبقاء على أرضهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن سلوك الاحتلال الإسرائيلي نفسه، كدولة غازية مستمرة وسامة، يدفع نحو المقاومة.
علاوة على ذلك، يرى الكاتب أن حماس حققت هدفها الاستراتيجي المتمثل في دفع السعي الفلسطيني إلى تقرير المصير في دولة خاصة بهم إلى قمة أجندة حقوق الإنسان في العالم. فوفقاً لمركز بيو للأبحاث، تحولت نظرة الجمهور الأمريكي لإسرائيل إلى نظرة سلبية، حيث يعبر أكثر من نصف البالغين في الولايات المتحدة عن رأي سلبي تجاه إسرائيل. هذا يشير إلى أن كسبت معركة الرأي العام، بينما تخسرها إسرائيل، حتى في الدول التي تُصنّف فيها الحركة منظمة محظورة.
الفاشية الجديدة.. إسرائيل أنموذج
يذهب جوناثان كوك في مقاله بتاريخ 24 مارس 2025 في “ميدل است آي” إلى أبعد من ذلك، ليصف إسرائيل بأنها “المستودع الرئيسي للأفكار الفاشية الغربية منذ الحرب العالمية الثانية”. ويرى أن الفاشية تعيد تأكيد نفسها في الولايات المتحدة وأوروبا، وأن الحملة الغربية على الحقوق الأساسية، مثل حرية التعبير السياسي والحرية الأكاديمية، تتم باسم حماية إسرائيل واليهود الغربيين الذين يشجعون جرائمها.
ويشير كوك إلى أن إسرائيل، بدعم واضح من الغرب، استمرت في القيام بالأشياء ذاتها التي وجدت الدول الغربية نفسها أنه من المستحيل تبريرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فبينما ألزمت عمليات إنهاء الاستعمار الغرب بالانسحاب من أفريقيا وآسيا، مُنحت إسرائيل ترخيصاً ودعماً لا نهاية له لتنمية مشروع قومي عرقي عنيف على وطن شعب آخر. وقد استمرت إسرائيل في سياساتها العنصرية وعمليات التهجير، وحشرت الفلسطينيين في معازل أصغر، وجُردوا من حقوقهم، وتعرضوا لجرائم خرب إبادة جماعية وتجويع واخفاء وتهجير قسري مستمرة.
يُبرز الكاتب أن إسرائيل هي آخر معقل استعماري كبير للغرب، والمكان الذي تختبر فيه الصناعات العسكرية الغربية قوتها على الفلسطينيين. وهي أيضاً المكان الذي يتم فيه اختبار قوة القانون الدولي، حيث يتم توسيع السخرية من مبادئه وتشويهها من خلال انتهاكات لا نهاية لها، ثم يتم عصيانها بشكل صارخ. مؤكداً أن قصة إسرائيل هي قصة غلاف مثالية لإخفاء الفاشيين الجدد، حيث يتم تصوير من يعارضون قهر الشعب الفلسطيني على أنهم “معادون للسامية”، وكل فلسطيني يقاوم القمع هو “إرهابي”.
تداعيات وأبعاد مستقبلية
إن الاعترافات المتتالية من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ومقالات التحليل التي تفضح زيف الرواية الرسمية، تعكس تحولاً عميقاً في فهم طبيعة الصراع. ففشل خطة “عربات جدعون” في تحقيق أهدافها المعلنة، واستراتيجية المقاومة الفلسطينية التي ترتكز على الصمود والرفض التام للاستسلام، كلها مؤشرات على أن مسار المواجهة في غزة هو صراع طويل الأمد تتشابك فيه الأبعاد العسكرية والسياسية والأيديولوجية.
إن إصرار نتنياهو على استئناف الحرب، بغض النظر عن اتفاقيات وقف إطلاق النار، لا يهدف فقط إلى إنقاذ ائتلافه، بل يعكس إدراكاً عميقاً بأن استسلام حماس يعني نهاية القضية الفلسطينية برمتها. ومع ذلك، فإن هذا الإصرار يقابله تصميم فلسطيني لا يتزعزع، يرى في المقاومة السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال وتحقيق التحرر.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، لا يكتفي الكاتب بفضح حقائق الفاشية الجديدة التي تتخذ من إسرائيل نموذجاً لها، وإنما يختم تحليله بالسؤال الأكبر: إلى متى يمكن للغرب أن يستمر في دعم هذا النموذج، بينما تتآكل مبادئه المعلنة عن حقوق الإنسان والعدالة؟ إن الإجابة على هذا السؤال قد تحدد مسار الصراع في غزة، ومستقبل المنطقة برمتها.