المنبر الاعلامي الحر

حرمان المحامين من الدفاع خارج إطار التأديب مخالفة صريحة

يمني برس | بقلم : المحامي / احمد توفيق جحاف

▪️في الآونة الأخيرة أكدت نقابة المحامين اليمنيين أهمية استمرار مجالس التأديب في أداء دورها للفصل في الشكاوى التأديبية وضبط أخلاقيات المهنة، باعتبارها السبيل القانوني لمحاسبة من يثبت مخالفته لأحكام القانون أو خروجِه عن القواعد المهنية. إذ شدّد نقيب المحامين ورئيس مجلس التأديب – فرع صنعاء خلال اجتماعٍ حديث على ضرورة عقد الجلسات التأديبية والفصل في الدعاوى بما يكفل تطبيق القانون وصون تقاليد وأعراف مهنة المحاماة. هذا التأكيد على دور المجلس التأديبي في تعزيز العدالة وصون شرف المهنة يبرز كضمانة أساسية لحسن سير العدالة.
لكن بالمقابل، برزت ظاهرة مقلقة تمثّلت في إقدام بعض القضاة على إصدار قرارات فورية بمنع محامين من الترافع أمام المحاكم، وذلك ضمن أحكام أو أوامر قضائية في قضايا منظورة لديهم، وخارج إطار المجالس التأديبية المخولة قانونًا بمحاسبة المحامين. وهذا السلوك يثير تساؤلا جوهريا مفاده : ما جدوى وجود مجلس التأديب إذا كان القاضي يوقع العقوبة بنفسه مباشرة؟ فهذه القرارات الفردية تستبق اختصاص المجلس المختص وتمثّل تجاوزًا للصلاحيات القانونية المقررة لمحاسبة المحامين.
حيث ينظّم القانون اليمني مهنة المحاماة عبر آليات تأديبية تضمن محاسبة المحامين عند الإخلال بواجباتهم ضمن إجراءات عادلة ومهنية. قانون تنظيم مهنة المحاماة اليمني رقم 31 لسنة 1999م أناط مهمة التأديب بمجلس تأديب أعلى ومجالس تأديب فرعية، مشكّلة من قضاة ومحامين، لضمان الحياد والخبرة
وهذا التكوين المتوازن يضمن رقابة قضائية ومهنية مشتركة على أي إجراءات عقابية بحق المحامين.
وفقًا للقانون ذاته، تتدرج العقوبات التأديبية التي تملك هذه المجالس توقيعها على المحامي المخالف، بدءًا من التنبيه الشفهي واللوم الكتابي وصولاً إلى المنع من ممارسة المهنة مؤقتًا أو حتى شطب الاسم من جدول المحامين في الحالات الجسيمة
. وتُفرض عقوبة الإيقاف المؤقت عن المرافعة وفق ضوابط مشددة وبعد إجراءات تحقق واستماع إلى أقوال المحامي المشكو في حقه وضمان حقه في الدفاع عن نفسه
. ولا يملك أي قاضٍ بصورة فردية – خارج إطار هذه المجالس – صلاحيةَ منع المحامي من مزاولة المهنة أو المرافعة، فدور القاضي يقتصر على إحالة المخالفات إن وُجدت إلى مجلس التأديب المختص
. وبذلك يتضح أن المشرّع اليمني أسس نظامًا خاصًا لمحاسبة المحامين يوازن بين محاسبة المخطئ وحماية حقوق المحامي المتهم عبر إجراءات عادلة.
وبالتالي فإن إقدام بعض القضاة على إصدار قرارات بمنع محامين من الترافع مباشرةً ضمن أحكامهم القضائية يُعد تجاوزًا صارخًا للإطار القانوني سالف البيان. فهذه القرارات الفردية تخالف صريح القانون الذي لم يمنح القاضي سلطة معاقبة المحامي مهنيًا سوى في إطار جرائم الجلسات (حالات التلبس بإخلال النظام في قاعة المحكمة) أو عبر إبلاغ النقابة بما قد يستدعي مساءلة تأديبية. أما العقوبات المهنية كالإيقاف عن المرافعة فلا تصدر قانونًا إلا من مجلس التأديب بعد تحقيق وضمان حق الدفاع للمحامي المشكو منه. تخطي هذه الإجراءات بإصدار القاضي عقوبة مباشرة يحرم المحامي من حقه في الدفاع عن نفسه أمام جهة مختصة ومحايدة، ويجعله عرضة لعقوبة فورية دون تحقيق مستقل.
كما أن تعميم أثر قرار المنع – ليشمل جميع المحاكم وليس مجلس ذلك القاضي فحسب – يمثل عقوبة جسيمة تتجاوز حدود سلطة القاضي بمقتضى القانون.
فضلاً عن مخالفة هذه القرارات للقواعد القانونية والإجرائية، فهي تمسُّ بجوهر حقوق الدفاع المكفولة دستورياً. ينص دستور الجمهورية اليمنية صراحةً على أن حق الدفاع أصالةً أو وكالةً مكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة أمام سائر المحاكم
وهذا يعني أن للمواطن حق توكيل محامٍ والدفاع عبره دون تضييق أو تقييد تعسفي. فإذا ما أصدر قاضٍ قرارًا بمنع محامٍ من الترافع، فإنه لا يعاقب المحامي في شخصه فحسب، بل يقيّد حق موكليه الحاليين والمستقبليين في حرية اختيار محاميهم وفي الحصول على دفاع فعال. إن ترهيب المحامين وإخافتهم بعقوبات المنع لمجرد تقديمهم دفوعًا أو مرافعات قانونية هو إخلال خطير بحق الدفاع ذاته
. ويوصف قانونيون هذه الممارسات بأنها شكل من أشكال الترهيب والقمع للمحامي لمجرد قيامه بواجبه في إبداء الدفوع المكفولة دستورًا وقانونًا
. فالمحامي من واجبه بذل كل دفوع مشروعة لخدمة موكله، ولا يجوز أن يُهدد بالعقاب لمجرّد أن حججه لم تلقَ هوى القاضي.
علاوة على ذلك، تمس هذه القرارات استقلال مهنة المحاماة كمهنة حرة تُعين القضاء على إظهار الحق. فحين يخشى المحامي من غضب القاضي وما قد يجرّه ذلك من إيقافه عن عمله، يفقد شعوره بالأمان والاستقلالية اللازمة لأداء واجبه بحرية ونزاهة. وتصبح علاقة المحامي بالقاضي غير متكافئة على نحو يخل بمنظومة العدالة، إذ قد يمتنع المحامي عن مجادلة القاضي أو تقديم دفع جريء دفاعًا عن موكله خشية عقوبة تعسفية. وقد أكدت نقابة المحامين أن هذه الممارسات تمثّل انتهاكًا صارخًا لحقوق الدفاع وتمس استقلال مهنة المحاماة وكرامتها
فاستقلال المحامي في أداء دوره هو جزء لا يتجزأ من حق المتقاضي في محاكمة عادلة؛ وأي انتقاص منه ينعكس مباشرةً على ميزان العدالة.
وتزداد خطورة هذه الظاهرة في ضوء التعديلات الأخيرة على قانون السلطة القضائية التي سُنّت في صنعاء عام 2024. فقد تضمنت تلك التعديلات نصوصًا غير مسبوقة تمنح القضاة صلاحية معاقبة المحامين بالمنع من مزاولة المرافعات مدة تصل إلى سنة كـجزاء على ما أعد “دفوعًا كيدية” أو إعاقة للتقاضي
واقل ما توصف هذه التعديلات بأنها مخالفة صريحة للدستور وتمثل تهديدًا خطيرًا لمبدأ الفصل بين السلطات
ولعل أخطر ما فيها أنها تُقيّد حق التقاضي والدفاع من خلال ترهيب المحامين وإقصائهم، بما يعيد إلى الأذهان ممارسات عفا عليها الزمن حين كان الوكلاء الشرعيون (غير المؤهلين قانونيًا) بديلًا مفروضًا على المتقاضين
إنها باختصار ردّة قانونية تنتقص من مكتسبات استقلال القضاء والمهنة المكتسبة عبر عقود من الزمن.
▪️وخلاصة القول: إن قيام بعض القضاة بإصدار قرارات منع المحامين من الترافع خارج إطار مجلس التأديب يفتقر إلى السند القانوني ويناقض مبادئ العدالة وحقوق الدفاع. وإذا كان المشرّع قد وضع نظامًا خاصًا لمحاسبة المحامي يضمن التدرج في العقوبة وحق الدفاع والرقابة القضائية على الإجراءات، فلا يجوز الالتفاف على هذا النظام عبر اجتهادات فردية تخرج عن روح القانون ونصّه. كما أن محاولة شرعنة هذه التجاوزات عبر تعديلات تشريعية غير دستورية تعد خطوة في الاتجاه الخاطئ تستوجب التراجع عنها. إن سيادة القانون تقتضي أن يخضع الجميع لأحكامه – قضاةً ومحامين – دون تغوّل طرف على صلاحيات الآخر. الحفاظ على حق المتقاضين في الدفاع وعلى كرامة مهنة المحاماة يستلزم وقف أي إجراءات أو نصوص تمنح سلطة عقابية مطلقة لقاضٍ تجاه محامٍ خارج الضوابط المقررة. وفي الوقت نفسه، لا بد من تفعيل دور المجالس التأديبية المستقلة لمحاسبة كل من يثبت عليه انتهاكٌ فعلي للقانون أو آداب المهنة، تحقيقًا للتوازن بين محاسبة المخطئ وصون حقوق الدفاع وسيادة القانون. فبهذا التوازن وحده تُصان هيبة القضاء وكرامة المحاماة معًا، وترتقي منظومة العدالة لمستوى أحكام الدستور ومبادئ العدالة الناجزة

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com