المنبر الاعلامي الحر

الأربعاء الدامي في صنعاء .. جريمة حرب وفاشية جديدة في استهداف الصحافيين

الأربعاء الدامي في صنعاء .. جريمة حرب وفاشية جديدة في استهداف الصحافيين

يمني برس | توفيق سلام
في مساءٍ دموي تحول فيه الحبر إلى دم، وتمزقت أجساد الصحافيين والصحافيات إلى أشلاء وجثث هامدة تحت الأنقاض.

أُحترقت بوصلات الحق وأُطفئت مصابيح الحقيقة في قلب صنعاء.

ما حدث لم يكن مجرد عملية عسكرية على مبنى أو ركن صحفي؛ بل كان هجمة ممنهجة على الذاكرة الوطنية وصوت الضمير.

الصحيفتان 26 سبتمبر واليمن، مؤسسة تحمل على عاتقها واجب إنساني وأخلاقي وإنقاذ أخلاقي للوقائع من فوهة الأساطير، وجدت نفسها مستهدفة لأنها امتداد تاريخي لوجدان المجتمع اليمني والعربي، ومرآته التي لا تسمح بتزييف جرائم الابادة وبشاعتها، والانتهاكات الإنسانية دون كشفها وفضحها للرأي العام.

سقوط شهداء الكلمة
ما حدث في صنعاء ليس استهدافًا لمنبر إعلامي فحسب، بل هجوم على ذاكرة اليمن وصوت جيشه وضميره الوطني. 26 سبتمبر واليمن ليست مجرد أوراق مطبوعة، بل منابر شكلت وعي أجيال، وفضاء حر لكشف جرائم الابادة التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني وزيف العدوان منذ بدايته.
استهداف الصحافيين في هذا القصف، جريمة إنسانية فضيعة، تجاوزت كافة الاعراف والقوانين الدولية. فالصحافي سلاحه القلم والكاميرا، وهدفه كشف الحقيقة التي يريد الاحتلال طمسها.
هذه الجريمة توازي في رمزيتها ما ارتُكب في غزة، حيث جرى قصف مقرات وكالة الصحافة الفلسطينية، وقتل المراسلين والمصورين أمام عدساتهم، ليمتزج الدم بالحبر والصورة بالنار. وما جرى في صنعاء هو ذات النهج، إسكات الصوت الحر بالقوة العارية، واعتبار الصحافة “جريمة”، لأنها لا تخضع لمنطق الاحتلال.

استهداف الأعيان المدنية: تكتيك فاشي متكرر

لم يكن مقر صحيفتي 26 سبتمبر واليمن في صنعاء هو المستهدف وحده؛ فالمربع السكني المحيط به جرى تحويله إلى مسرح للدمار في قتل السكان المدنيين، في واحدة من أبشع الجرائم الوحشية. هذا التكتيك هو ذاته الذي يُمارس في غزة، قصف الأبراج السكنية على رؤوس المدنيين بحجة استهداف بؤر إرهابية. وفي لبنان، اغتيال الصحافيين قرب الحدود بذريعة مرافقة المقاومين.
إنه النهج الفاشي ذاته، لا فرق بين مدني وعسكري، بين صحافي ومقاتل، بين مكتب إعلامي ومنصة صواريخ. الكل هدف في حرب الإبادة الجماعية، حيث تتسع دائرة الإرهاب في زيادة حجم الدمار والخراب والقتل، وتفريغ الوعي الجمعي وتدمير كل من ينقل صورة الحقيقة إلى العالم.

ضوء أمريكي وازدواجية غربية
جريمة الأربعاء الدامي، ما كانت لتحدث لولا الضوء الأخضر الأمريكي. واشنطن تغطي هذه الجرائم بالحديث عن “الدفاع عن النفس”، فيما مؤسساتها الإعلامية تغض الطرف عن قتل الصحافيين، أو تقدم روايات الاحتلال كحقيقة جاهزة. أما أوروبا التي تتشدق “بحرية التعبير”، فهي عاجزة عن إصدار موقف موحد، فيما تواصل بعض عواصمها تزويد إسرائيل بالسلاح.
هذه الازدواجية لم تعد تخدع الشعوب، فالمجتمع الدولي يتفرج، بينما تُقصف الكاميرات والمطابع، ويُدفن الصحافيون أحياء تحت الركام. إنها لحظة سقوط أخلاقي شبيه بما مارسته الفاشية الأوروبية في مستعمراتها، حين رفعت شعارات التمدن في الداخل، وأطلقت يد الجيوش لارتكاب المجازر في الخارج.

أبعاد إقليمية ومأزق استراتيجي

جريمة الأربعاء في صنعاء تكشف أن اليمن دخل بعمق في المعركة الإقليمية الكبرى. فاستهداف الصحافة اليمنية يعني أن صوت اليمن بات يقلق الاحتلال وحلفاءه، كما تقلقهم المقاومة الوطنية بغزة أو صمود جنوب لبنان. اليمن اليوم ليس جبهة مساندة فحسب، بل جزء لا يتجزأ من جبهة إقليمية ممتدة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر.
لكن رغم كل هذا العنف، لم يتحقق للاحتلال وأمريكا ما يريدان.
في غزة، لا تزال الكلمة الحرة تكسر الحصار الإعلامي، حتى مع سقوط أكثر من 150 صحافيًا شهيدًا.

في اليمن، وُجهت آلاف الغارات، لكن الإعلام لم يُسكت، والهجمات البحرية لم تتوقف، وكل اغتيال لصحافي يولد أصواتًا أعلى، ويضاعف الغضب الشعبي.
هذا الفشل يعكس مأزقًا استراتيجيًا، القوة العسكرية وحدها لم تعد تكفي لإخماد الوعي. فكل قصف لمبنى إعلامي يتحول إلى مادة أوسع لفضح الجريمة، وكل دم شهيد يكتب رواية أكثر صدقًا من آلاف المقالات.

الصحافة فعل انساني
الصحافة ليست وظيفة تقنية، بل فعل إنساني وأخلاقي؛ لأنها تمنح المجتمع قدرة الرؤية، وتزرع في الوعي العام مناعة ضد الكذب الرسمي وضد الدعاية السياسية الغربية والصهيونية. عندما يخرج الصحفي الميداني من محيط مكتبه، فهو لا يقوم بعمل بعضه وظيفي؛ بل يؤدي واجبًا إنسانيًا؛ يوثق جرائم الإبادة هنا وهناك، يعري مشاريع الاستيطان والتوسع، ويسلط الضوء على المعاناة التي تُحاول آلة الاحتلال طمسها. لهذا السبب بالذات يصبح القلم عدوًا، ولأجل هذا السبب بالذات يستهدف الصحافي وتُستهدف مقرات الصحف بعنف وحشي، لأن صمت الجدران يساوي تمرير الخرائط الجديدة، وصوت الصحافي هو العائق أمام تحويل المصائر إلى تداول استعماري بارد.

قصف مقري 26 سبتمبر واليمن وتحويل مبانيهما إلى ركام، مع سقوط شهداء وجرحى في صفوف الصحافيين، يمثل تقليصًا مقصودًا لمساحة الحق في الوجود.. ساحة للعمل، للتراسل، وللمساءلة. هذه ليست أخطاء عرضية في ساحة الحرب، بل اختيار تكتيكي يهدف إلى شل قدرة المجتمع على توثيق الجرائم وقطع ربط الشهادة بمسار المحاسبة. استهداف مرافق الإعلام والمطابع والمقرات الصحفية هو تكتيك اعتادته أنظمة القمع عبر التاريخ لأنها تعلم أن إسكات الكلمة أحيانًا يسبق إسكات الجسد والذاكرة، وأن هدم المبنى الإعلامي أداة لتفريغ المجتمع من قدرته على الرد والأرشفة والنضال القانوني والسياسي.
منطق القانون الدولي يضع الصحافيين في خانة المدنيين المحميين، ففي طبيعة عملهم، فهم لا يشاركون مباشرة في الأعمال القتالية؛ والصحافي الذي يوثق ويحقق لا يمكن أن يُصنف مقاتلاً لمجرد أنه يكشف مجازر أو يتهم قوات احتلال بجرائم حرب. والاعتداءات المتكررة على إعلاميين ومؤسسات إعلامية في سياق هذا الصراع تُشكل انتهاكًا صارخًا للقوانين والأعراف الدولية ومؤشرات على نمط ممنهج من الجرائم التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.

المنظمات الحقوقية رصدت تصاعد استهداف الإعلاميين والإعلاميات في ميدان الصراع، وحذرت من أن هذه السياسة تُقوض حق الشعوب في المعرفة وتُسهم في مناخ إفلات دائم من العقاب.

تفسير استراتيجي لذات الفعل يكشف أن استهداف الصحافيين يخدم أكثر من هدف ميداني ضيق أولًا، يحاول قاطعو الأصوات كسر رابط التضامن الإقليمي عبر حجب مشاهد المعاناة عن الرأي العام؛ ثانيًا، يعمل على تعطيل قدرة الحشد الأخلاقي الدولي الذي تنقله تقارير الميدان والصور؛ ثالثًا، يسعى إلى تكريس سردية أمنية موحدة تُبرر تجاوز القوانين باسم محاربة الإرهاب؛ رابعًا، يهدف إلى حماية خرائط الاستيطان وخطط إعادة ترسيم المنطقة من أي معارضة إعلامية تكشف خفايا التمويلات والتحالفات والعمليات التي تقف خلفها. هذه الأهداف ليست محلية فحسب، بل تتقاطع مع استراتيجية أكبر تعمل على تحويل الصهاينة إلى رأس حربة لحفظ مصالح امتدت عبر تحالفات سياسية وعسكرية، وتبرير عمليات الهيمنة في مناطق حساسة من العالم العربي.

وإذا نظرنا إلى البنية الأوسع لهذه السياسة، فسنجدها جزءًا من مشروع إمبريالي ـ نيو-ليبرالي يرى في المنطقة سوقًا وموردًا وفضاءً يُحكم من المركز الغربي. إبقاء الدول رهينة للقرارات الخارجية، منعها من بناء اقتصاد مستقل، تحويل مجتمعاتها إلى أسواق استهلاكية، وتقويض مصادر وحدتها الثقافية، كل هذا يتطلب تكتيكات معادية لأي صوت مستقل؛ فالتضييق الإعلامي وإسكات الأقلام هما من أدوات هذا البرنامج. وما يزيد الطين بلة هو محاولة بعض أذرع القوة العالمية تزوير الصراع وتفريغه من سياقه الاستعماري عبر تحويله إلى نزاع مذهبي أو طائفي، لأن معارك الهوية تشتت المقاومة وتفصلها عن بوصلة التضامن القومي والإنساني.

الوصف الأخلاقي والسياسي لهذا السلوك لا يتردد في وضعه في خانة الإرهاب الدولي، عندما تُوجه ضربات متعمدة ضد صحافيين ومؤسسات إعلامية تهدف إلى ترهيب المجتمع وإسكات صوت الشهادة، فإننا أمام فعل إرهابي مُرتكب ليس فقط ضد أشخاص وممتلكات، بل ضد حق الشعوب في المعرفة والمساءلة. في هذا السياق، ينبغي أن تُعامل هذه الجرائم باعتبارها جزءًا من سجلات تاريخية وسياسية تُقدم إلى محاكم العدالة الدولية عبر أدلة التوثيق والمقاطع والصور وشهادات الشهود.

الوثيقة الإعلامية هنا ليست مجرد مادة تدوين؛ هي دليل شرعي وأخلاقي يُدين الفاعل ويكسر طوق الإفلات من العقاب. وبالمقابل، فإن مقاومة الصحافة اليمنية لم تنكسر، ولن تنكسر طالما بقي الاحتلال مستمرًّا؛ لأن صمود الأقلام مردُّه رابط إنساني عميق. الصحفي لا يختار أن يكون جنديًا، بل يختار أن يكون شاهدًا، وهذا الاختيار يخدم قيمة إنسانية لا تقبل الاستكانة. موقف الصحافة اليمنية اليوم إنساني قبل أن يكون سياسيًا؛ إنه موقف يعلن أن نقل الحقيقة واجب إغاثي أولًا، ويمثل شكلًا من أشكال المقاومة الأخلاقية التي تحرك ضمائر الشعوب وتضع قضايا المجازر على طاولة العالم. لن ينجح من يسعى لكسر هذا الصوت طالما استمرت معاناة الشعب الفلسطيني؛ لأن كل محاولة لطمس الشهادة ستتحول إلى وقود لانتفاضات أقوى ولرصد أشد دقة ولشبكات تضامن إقليمية تزيد من عُزلة مرتكبي الانتهاكات.

الاستنتاج لا يترك مجالًا للشك، ما حصل في صنعاء، وفي عدة محافظات يمنية لتدمير البنية التحتية والاقتصادية هو فصل من فصول استراتيجية أوسع قائمة على نهج التدمير، إسكات الضمائر وتطويع المشاهد. لذلك فإن استهداف مقر الصحيفتين جريمة تنتمي إلى سجل الفاشية الصهيونية الجديدة التي تستخدم أدوات عسكرية ودبلوماسية وإعلامية لإلغاء الآخر.

الرد الأخلاقي والسياسي ينبغي أن يكون مضادًا ومتعدد الوسائط، توثيق مستمر، ضغط دبلوماسي لمنع الإفلات من العقاب، تحشيد رأي عام دولي من خلال نشر الأدلة، وأن تتضامن النقابات المحلية والعربية والدولية، باعتبار صحفيي 26 سبتمبر واليمن أعضاء في هذه النقابات، بالاضافة إلى المنظمات الحقوقية، وحشد تضامن إقليمي يقلب معادلات الصمت والتحجيم. وفي الأفق الأعم، لا خلاص من هذه السياسات إلا بإقرار العدالة لإطلاق المشروع السياسي الذي يكسر احتكار القرار الإقليمي ويضع شعوب المنطقة في موقع القدرة على تقرير مصيرها.

الصحافة اليمنية، بحبرها وصورها وشهدائها، تحمل اليوم مهمة الذاكرة والضمير، لكنه أيضًا البرهان الأوضح على أن الكلمة الحرة باتت ذات تأثير كبير في وجه المشروع الصهيوني – الأمريكي.
وأن أمة تصمت على قتل أقلامها وصحافييها، ستجد نفسها عاجزة عن الدفاع عن أرضها وكرامتها. أما إذا جعلت من دماء شهداء الكلمة راية للتحرير، فإن مشروع الفاشية الجديدة سيتحطم، كما تحطمت قبلها كل مشاريع الاستعمار.

قد يعجبك ايضا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com