فجيعة السلام في متاهة الهيمنة وتغافل العالم
فجيعة السلام في متاهة الهيمنة وتغافل العالم
يمني برس |  بقلم | محمد احمد الشامي
إنّه لأمرٌ يدعو للدهشة الموجعة؛ فبينما يتردّدُ في عمقِ الفطرةِ الإنسانيةِ عشقٌ أبديٌّ للسلام والسكينة، وتُجمعُ القلوبُ في كلِّ بقعةٍ من الأرض على أمنيةِ الخير للبشرية، يظلُّ واقعُ الحالِ مروّعاً، تُسيّجهُ قوىً عظمى حوّلتْ عظمةَ الإمكانِ إلى غطرسةِ الهيمنة. هذه القوى، التي تتربّعُ على عروشِ الترساناتِ النوويةِ والفتاكة، لا تكتفي بوضعِ “العراقيلِ” أمامَ نداءاتِ التحررِ العادلة، بل تُقدّمُ دُرُوعَها -صراحةً أو ضمناً- للكيانات العدوانية والمتوحشة، مُرسِّخةً منطقَ القوةِ الأعزلِ من أيِّ أخلاق تكمنُ المفارقةُ الكبرى، والفضيحةُ الأخلاقيةُ للعصر، في المعيارِ المزدوجِ الذي تُطبّقهُ هذه الدولُ العظمى.
إنّها تُشهرُ سيفَ شروطها وقراراتها على حركاتِ المقاومةِ والجهادِ التحرريِّ الصَّغيرةِ، مُطالبةً إياها بانتزاعِ السلاحِ؛ أي بتجريدِ النفسِ من آخرِ حبلٍ واهٍ للنجاةِ والكرامةِ والدفاعِ عن الذات. في المقابل، ترفضُ هي بالمطلقِ أن تكونَ القدوةَ، أن تبدأَ بنفسها بنزعِ سلاحها الفتّاك الذي يهدّدُ وجودَ الكوكب، لتكونَ مناراً يقتدي به الضعيفُ قبل القوي يُصبحُ المطلبُ هنا ليس مجرّدَ تسويةٍ سياسية، بل هو دعوةٌ أخلاقيةٌ وإنسانيةٌ جوهرية: كيف لمن يمتلكُ القدرةَ على تدميرِ العالمِ أن يُطالبَ الرازحَ تحتَ الاحتلالِ والقهرِ بالتخلّي عن وسيلتهِ الوحيدةِ لردعِ العدوان؟ إنّ السلامَ الحقيقيَّ يجبُ أن يبدأَ بتجريدِ الأقوياءِ من أسبابِ طغيانهم، لا بتجريدِ المُقاومينَ من أسبابِ دفاعهم.
إنّ هذهِ الأزمةَ الوجوديةَ لا تبقى نظريةً مجرّدة، بل تتجسّدُ بدمٍ ولحمٍ وأنينٍ في نقاطٍ ساخنةٍ من خريطةِ العالم. ولعلَّ المثالَ الحيَّ والأكثرَ فظاعةً في زمننا، هو ما يجري في قطاع غزة وجنوب لبنان.
في غزة، نشهدُ فصولَ مأساةٍ غيرِ مسبوقة، حيثُ تُمارسُ آلةُ الحربِ المُسلّحةِ بأحدثِ تقنياتِ الدمار، ضدَّ مدنيينَ محاصرينَ لا يملكونَ حولاً ولا قوة، سوى إرادتهم في البقاء. وتتحوّلُ قضيةُ المقاومةِ من أجلِ التحررِ ورفعِ الحصارِ إلى “إرهاب” في أعينِ القوى العظمى التي توفّرُ الغطاءَ والدعمَ الماديَّ والسياسيَّ للعدوان.
أما في جنوب لبنان، فالمشهدُ يتكررُ في لعبةِ شدِّ الحبالِ بين حقِّ الدفاعِ عن الأرضِ والكرامة، وبين التهديدِ الدائمِ بآلةِ الحربِ التي لا تتورّعُ عن استهدافِ المدنيين والبنى التحتية، وكلُّ ذلك يتمُّ تحتَ رعايةِ صامتةٍ أو مُباركةٍ صريحةٍ من القوى التي تدّعي حمايةَ حقوقِ الإنسان.
وفي خضمِّ هذهِ الفجيعة، يبرزُ عاملانِ يزيدانِ من مرارةِ الواقع:
الصمتُ والخذلانُ العربيُّ والإسلاميُّ:
يُخَيّمُ صمتٌ مُهيبٌ وخَذْلانٌ مُتراكمٌ من قِبَلِ الأنظمةِ العربيةِ والإسلاميةِ التي كانَ يُفترَضُ بها أن تكونَ السَّندَ والظهرَ للحقوقِ العادلة. هذا التخاذلُ ليسَ مجردَ سلبيةٍ، بل هو توفيرُ غطاءٍ إضافيٍّ للعدوان، يُحجّمُ صوتَ المقاومةِ ويُضعفُ موقفها في وجهِ الهيمنةِ الدولية.
وهنا تبلغُ مأساةُ العدالةِ ذروتها. فـالأممُ والجهاتُ والهيئاتُ الحقوقيةُ والدوليةُ والمحاكمُ الدوليةُ تبدو وكأنّها تُغمضُ عينيها عن فظائعَ تُرتكبُ أمامَ مرأى العالم، أو أنّها تُطبِّقُ القانونَ الدوليَّ بـمكيالين؛ مكيالٌ قاسٍ يُعاقبُ الضعيفَ ويجرّدهُ من أسبابِ قوته، ومكيالٌ مُتسامحٌ يتغاضى عن جرائمِ القويِّ وينزعُ عنه صفةَ المسؤوليةِ والمساءلة. إنّ هذا التجاهلَ أو الكيلَ بمكيالين يُدمّرُ مصداقيةَ العدالةِ الدوليةِ ذاتها، ويؤكّدُ أنَّ الحقوقَ لم تعدْ قيمةً سامية، بل مجردَ أداةٍ طيّعةٍ في يدِ السُلطةِ والنفوذِ السياسي.
نحو قدوةٍ تنزعُ سلاحها أوّلاً
لذا فإنَّ الحديث الأدبيَّ العميقَ يتجاوزُ الوصفَ ليُطلِقَ نداءً وجودياً: إنّ الطريقَ الوحيدَ لسلامٍ مستدامٍ هو أن تتبوأَ الدولُ العظمى مقامَ “القدوةِ” التي يُحتذى بها في نزعِ سلاحها أولاً.
يجبُ أن تُدركَ هذهِ القوى أنَّ أمنَها لا يكمنُ في تراكمِ أدواتِ الموت، بل في نشرِ العدالةِ الحقيقيةِ وإنهاءِ الاحتلالِ والقهر. فحينئذٍ، وعندما تجرّدُ القوةُ العظمى نفسها من مخالبِها الفتاكة، يُصبحُ نزعُ سلاحِ الحركاتِ الصغيرةِ أمراً منطقياً وطبيعياً في إطارِ حلٍّ شاملٍ وعادل. عندها فقط، يُمكنُ للسلامِ أن يسودَ، وتحظى الدولُ الصغيرةُ والضعيفةُ بحقها في الوجودِ والحريةِ والكرامةِ، ويتخلّصُ العالمُ من السلاحِ القاتلِ والمُميتِ الذي يُهدّدُ فجرَ كلِّ يومٍ جديد.
 
			 
											
Comments are closed.