تآكل الدولار.. علامات الضعف والانهيار في الهيمنة الاقتصادية الأمريكية
شهدت الأسواق المالية العالمية مؤخراً تراجعاً ملحوظاً في قيمة الدولار الأمريكي، مصحوباً بانخفاض في عوائد سندات الخزانة الأمريكية، وهي مؤشرات تشي إلى تحولات عميقة وتزايد التوقعات بخفض وشيك لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة. ووفقاً لتحليلات نقلتها “وول ستريت جورنال”، فإن هذه التحركات تأتي في وقت يتحدث فيه البعض عن احتمالية تعيين مبكر لرئيس جديد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي من قِبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما قد يدفع نحو سياسة نقدية أكثر تيسيراً. في المقابل، تستغل الصين هذه اللحظة لتعزيز مكانة اليوان كعملة عالمية، في خطوة قد تعيد رسم خرائط القوى الاقتصادية والنقدية وتلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي.
يمني برس | يحيى الربيعي
انفصال الدولار عن السندات.. إنذار بتحول جوهري
لطالما ارتبط الدولار الأمريكي وعوائد السندات بعلاقة طردية تقليدية، حيث يتحركان في الاتجاه ذاته. إلا أن المشهد الحالي يشير إلى “تفكك ملحوظ” في هذه العلاقة، مع انخفاض الدولار بينما تسجل عوائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات ارتفاعاً. يرى الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، من كلية العلوم الإدارية والمالية بالجامعة الوطنية الخاصة، أن هذا الانفصال “ليس مجرد تذبذب سوقي، بل إنذار بتحول جوهري في النظام المالي العالمي”.
لقد سجل مؤشر “بلومبرغ” للدولار انخفاضاً بنسبة 0.3%، ليبلغ أدنى مستوياته منذ أبريل 2022، متكبداً خسائر مقابل اليّن الياباني واليورو، وفقاً لتقرير “وول ستريت جورنال” وتحليلات السوق، ومقابل الجنيه الإسترليني والفرنك السويسري، حسب تقارير “FXNEWSTODAY”. يعزز هذا التراجع من الضغوط على الدولار، الذي يواجه تحديات من قبيل مخاطر أسعار الفائدة والتضخم والجدل السياسي حول سقف الدين لاسيما وأن الحكومة الفيدرالية الأميركية تواصل تراكم مستويات قياسية من الدين عاماً بعد عام، وسط مخاوف متزايدة بشأن الاستدامة المالية طويلة الأمد. إذ يبلغ إجمالي الدين الذي تدين به الولايات المتحدة للمقرضين 36.2 تريليون دولار – أرقام مايو (أيار) – وهو رقم يقترب من أعلى مستوياته التاريخية عند مقارنته بحجم الناتج الاقتصادي للبلاد – وهو مقياس أساسي لقدرة الحكومة على سداد التزاماتها المالية.
“رئيس الظل” وسياسة التيسير النقدي.. مزيد من الضغط على الدولار
تأتي التحركات الأخيرة في الأسواق عقب تقرير لـ”وول ستريت جورنال” يشير إلى أن ترامب قد يعلن عن مرشحه لرئاسة الفيدرالي في سبتمبر أو أكتوبر، وهو توقيت مبكر قد يخلق “رئيس ظل” قادراً على التأثير في معنويات السوق. هذا الإعلان يعزز التوقعات بخفض أسعار الفائدة الأمريكية في وقت أقرب مما كان متوقعاً. وفي هذا السياق، صرحت محجبين زمان، رئيسة أبحاث العملات الأجنبية لدى “إيه إن زي بانكينج جروب”، بأن “ترامب كان يتحدث عن خفض الفائدة، لذا سيختار شخصاً ينسجم مع توجهاته، ومن سيعلن اسمه على الأرجح سيكون ميالاً للتيسير النقدي، وهذا سيضغط أكثر على الدولار”.
أسلوب ترامب التصادمي مع الفيدرالي يضيف مزيداً من الغموض بشأن مسار أسعار الفائدة، في وقت يواجه فيه المتعاملون إشارات اقتصادية متضاربة. ففي حين توقع اقتصاديون أن تؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى زيادة الأسعار، يأمل البعض أن ينظر الفيدرالي إلى التأثير المحتمل لتلك الرسوم على المداخيل الحقيقية وسوق العمل. وقد أشار عضوا مجلس الاحتياطي الفيدرالي كريستوفر والر وميشيل بومان إلى استعدادهما لخفض الفائدة اعتباراً من يوليو إذا بقي التضخم تحت السيطرة. ومع ذلك، بقي رئيس الفيدرالي جيروم باول متحفظاً، مصرحاً في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ بأن “من الصعب جداً التنبؤ بتأثير الرسوم على التضخم”، ومؤكداً أن الفيدرالي “ليس بحاجة للاستعجال في خفض الفائدة”.
فسر المستثمرون شهادة باول على أنها تميل إلى التيسير النقدي، خاصة بعد تصريحه بأن خفض الفائدة سيكون مرجحاً إذا لم ترتفع معدلات التضخم بشكل مفاجئ هذا الصيف. ووفقاً لأداة فيد ووتش التابعة لمجموعة CME، ارتفعت رهانات المستثمرين على خفض بمقدار ربع نقطة مئوية بحلول سبتمبر إلى 91.5%، مقارنة بنحو 83% قبل أسبوع فقط. وعلقت كارول شليف، كبيرة مسؤولي الاستثمار لدى “بي أم أو برايفت ويلث”، قائلة: “لولا حالة الشك الناجمة عن تغير السياسات التجارية، لكان الفيدرالي قادراً على خفض الفائدة هذا الصيف”، وتوقعت خفضين في عام 2025، يبدأ على الأرجح في سبتمبر.
كما تعرض الدولار لضغوط إضافية بعد مواصلة ترامب هجومه على باول، حيث صرح بأنه “يتمنى لو يستقيل باول قبل نهاية ولايته”، وأنه يرغب في خفض سعر الفائدة الأساسي إلى 1% مقارنة بالمستويات الحالية التي تتراوح بين 4.25% و4.5%. ويراقب المستثمرون كذلك مشروع قانون ضخم طرحه ترامب بشأن خفض الضرائب وزيادة الإنفاق، والذي يقدر مكتب الميزانية في الكونغرس أنه قد يُضيف 3.3 تريليون دولار إلى الدين الوطني خلال عشر سنوات.
الحرب التجارية وتأثيرها على السندات الأمريكية
على الرغم من امتلاك الصين حصة كبيرة من السندات السيادية الأمريكية (حوالي 850 مليار دولار حتى عام 2023)، فإن الحرب التجارية بين البلدين تؤثر على هذه السندات عبر آليات معقدة. فتهديد الصين ببيع حيازاتها يمكن أن يُستخدم كسلاح اقتصادي لمواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية، لكن هذا يحمل مخاطر كبيرة على الاقتصاد الصيني نفسه، بما في ذلك خسائر مالية، ويهدد بتدمير الثقة العالمية في استقرار النظام المالي العالمي. يُشار إلى أن الصين قلصت حيازتها بنحو 200 مليار دولار بين عامي 2013 و2023، لكن ذلك لم يُحدث اضطرابات كبيرة بسبب السيولة الهائلة في السوق، بحسب الدكتور إبراهيم نافع قوشجي.
الحرب التجارية المتبادلة تضعف النمو في البلدين، مما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة. ومع ارتفاع معدل التضخم بسبب الرسوم على الواردات، يتأثر ذلك على أسعار السندات. وقد تسمح الصين بانخفاض قيمة اليوان كرد على الرسوم الأمريكية، مما يزيد تكلفة خدمة ديونها المقومة بالدولار، وقد تقوم الصين بتحويل استثماراتها إلى أصول أخرى مثل الذهب أو السندات الأوروبية لتعويض خسارتها. وتُشير التداعيات الهيكلية طويلة الأجل للحرب التجارية إلى سعي دول مثل الصين إلى تقليل اعتمادها على الدولار، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل الهيمنة الأمريكية بمرور الوقت إذا نجحت الصين في تعزيز نظام مالي موازٍ. ومع ذلك، يؤكد الدكتور قوشجي أن حجم سوق السندات الأمريكية الذي يتجاوز 31 تريليون دولار يجعل تأثير أي بيع صيني “محدوداً”، كما أن من مصلحة الصين الحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي.
“الامتياز الباهظ” في خطر
لطالما تمتع الاقتصاد الأمريكي بما يُعرف بـ”الامتياز الباهظ” للدولار، كونه العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة، هذا الامتياز سمح للولايات المتحدة بالاقتراض بأسعار فائدة منخفضة بشكل غير طبيعي، ودعم نموها الاقتصادي، ومنح واشنطن قوة جيوسياسية هائلة عبر قدرتها على فرض العقوبات. لكن تراجع هيمنة الدولار يحمل في طياته تداعيات خطيرة على الداخل الأمريكي من عدة احتمالات. فارتفاع تكاليف الاقتراض إذا انخفض الطلب على الدولار وتراجعت الاستثمارات في الأصول الأمريكية مثل سندات الخزانة، قد يجعل الحكومة والشركات الأمريكية تواجه تكاليف اقتراض أعلى. هذا يعني زيادة الأعباء على الميزانية الفيدرالية المثقلة بالديون، إذ يبلغ إجمالي الدين الذي تدين به الولايات المتحدة للمقرضين 36.2 تريليون دولار – أرقام مايو (أيار) – وهو رقم يقترب من أعلى مستوياته التاريخية عند مقارنته بحجم الناتج الاقتصادي للبلاد، حسب مكتب الميزانية الكونغرسية (CBO).
كما أن ضعف الدولار يقلل من قدرة واشنطن على استخدام العملة كسلاح، مما يحد من نفوذها على الساحة الدولية. فـ”امتلاك الصين لحصة كبيرة من السندات السيادية الأمريكية (حوالي 850 مليار دولار حتى 2023) يمنحها أداة ضغط محتملة”، رغم أن استخدامها يحمل مخاطر على الصين نفسها، كما أشار الدكتور إبراهيم نافع قوشجي.
الحرب التجارية التي يقودها ترامب، بفرض رسوم جمركية جديدة، قد تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلكين، مما يضغط على التضخم. هذا يضع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في موقف صعب، ففي حين يتوقع البعض خفضاً مبكراً للفائدة، يرى رئيس الفيدرالي جيروم باول أن “من الصعب جداً التنبؤ بتأثير الرسوم على التضخم”، مؤكداً على عدم الحاجة للاستعجال في خفض الفائدة. هذا التضارب في السياسات يضيف مزيداً من الغموض على مسار الاقتصاد الأمريكي، كما أشارت كارول شليف إلى أن “التوقف الحالي في مسار الخفض يعود للرسوم، وليس بالضرورة مؤشراً على تحسن اقتصادي”. وقد علق فرانشيسكو بيسولي، استراتيجي العملات في بنك ING، قائلاً: “لا تزال المخاطر تميل إلى مزيد من التراجع للدولار، لكننا نعتقد أن الأسواق قد بالغت في تسعيرها المتفائل بخفض الفائدة، خاصة مع توقعاتنا بأن تباطؤ التوظيف سيكون تدريجياً، مع احتمال ارتفاع التضخم في الأشهر المقبلة”.
نحو نظام مالي متعدد الأقطاب
إن تراجع هيمنة الدولار وصعود اليوان يعد تحولاً يعيد تشكيل الديناميكيات الاقتصادية العالمية. بدأت البنوك المركزية حول العالم، وخاصة في دول “البريكس”، في تنويع احتياطياتها بعيداً عن الدولار، متجهة نحو الذهب والعملات المحلية. هذا التحول يعكس “رفضاً تدريجياً للنموذج الاقتصادي الأمريكي” وتزايد المخاوف بشأن الديون الأمريكية الهائلة. وقد انخفضت حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية إلى أقل من 60% لأول مرة منذ عقود.
ومع سعي الصين لتدويل اليوان وتعزيز استخدامه في التسويات التجارية، بدأت التجارة الدولية تشهد تحولات. فـ”حصة اليوان في تسويات المعاملات عبر الحدود داخل الصين تجاوزت الدولار الأمريكي بالفعل”، بحسب تشاوبنغ شينغ، كبير الخبراء الاستراتيجيين في بنك “أستراليا آند نيوزيلندا بانكينغ غروب”. هذا التوجه قد يجعل صادرات بعض الدول أكثر تكلفة ووارداتها أرخص، مما يؤثر على موازينها التجارية وصناعاتها المحلية.
فضلاً عن أن تراجع الاستثمارات والتحويلات المالية، قد تتأثر الأسواق الناشئة بشكل خاص من تباطؤ التجارة العالمية وانخفاض أسعار السلع الأساسية. يرى محللون أن النتيجة المحتملة تفوق في احتمالاتها مسار تحقق “انهيار مفاجئ، إلى إمكانية حدوث تحول تدريجي نحو نظام مالي متعدد الأقطاب”. هذا النظام سيعني تراجعاً في قدرة الولايات المتحدة على التحكم في الأوضاع المالية العالمية، مما يؤثر على فعالية قرارات سياستها النقدية.
في هذا السياق، يواصل نظام الدفع الصيني “سي آي بي إس” كسب المزيد من الزخم، ليشمل بنوكاً أجنبية جديدة، مما يعزز استخدام اليوان في تسويات المعاملات عبر الحدود في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وفقاً لبيانات بنك الشعب الصيني. إن هذه التحولات ليست بمعزل عن التوترات الجيوسياسية الراهنة، وهي تعكس سعياً حثيثاً لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي. السؤال الأهم هو: هل ستستطيع الولايات المتحدة، التي تواجه “عجزاً مالياً متفاقماً، طبقة سياسية بلا ضوابط، وحرباً تجارية تعيد تشكيل سلاسل التوريد العالمية”، أن تتكيف مع هذا المشهد الجديد وتحافظ على جزء من نفوذها الاقتصادي، أم أننا نشهد فعلاً بداية نهاية “الامتياز الباهظ” للدولار؟