(حكاية مجزرة أطفال التعزية الموجعة )
يمني برس || مقالات رأي:
«عندما تحول الملعب لمأتم على يد مرتزقة العدوان»
كانت الساعة تقترب من الخامسة مساء الجمعة 11يوليو 2025 م . في منطقة العرسوم بمديرية التعزية، الشمس تميل للغروب، والهواء ساكن إلا من أصوات أطفال يملأون الساحة الترابية بضحكهم وصياحهم.
مبارك ياسر علي أحمد غالب، ابن الرابعة عشرة، كان أكثرهم حماسة. يركض خلف الكرة، يصرخ من شدة الحماس:
-مررها لي يا أسامة! خليني أسجل !
أسامة أبو بكر أحمد علي، 12 عامًا، كان يناور بخفة، يضحك بصوت عالٍ، يرد عليه:
– لا، هذه المرَّة دوري، شوف كيف أسجلها من نص الملعب!
بشير أكرم أحمد غالب، 12 عامًا، يراقب الكرة بحماس، يركض خلفها وهو يصفق، يضحك بلا توقف.
أنس جواد محمد صالح، 14 عامًا، يقف في طرف الساحة، يضحك بخجل، يركل الكرة كلما اقتربت منه، وكأنه يحاول ألا يزعج أحدًا.
وأحمد علي مقبل عبد الله العتمي، 12 عامًا، يركض بأقصى سرعته، يصرخ :
– أنا أسرع واحد فيكم! انتبهوا!
كانوا جميعًا ينسون في تلك اللحظات الخوف وأوجاع حصار العدوان كانوا فقط أطفالًا يلعبون، يحلمون بالفوز في مباراة صغيرة، وكأن العالم كله متوقف على هدف يسجله أحدهم.
ثم، فجأة، سقطت قذيفة مدفعية وسط الساحة.
دوّى الانفجار، ارتفع الغبار، تناثرت الشظايا، وتبدّدت الضحكات في الهواء.
من داخل البيوت، خرجت الأمهات يركضن، أصوات صراخهن تمزق الصمت.
كانت أم مبارك أول من وصلت للملعب بوجه مذعور وقدمين مرتعشتين وجهها شاحب .
تقابل زوجها فتصرخ :
– يا مبارك! فين ولدي؟!
تقترب أكثر تشاهد جسده على الأرض ، رأسه ينزف، جسده ساكن. ركضت إليه، سقطت بجانبه، أمسكت رأسه بين يديها
– يا ولدي… قوم، لا تخليني لحالي! قلت لك لا تتأخر… مبارك، يا نور عيني!
كانت تهزه بكل قوتها، تحاول إعادته للحياة، لكن بلا جدوى.
وصلت أم أسامة بعد لحظات، عيناها حمراوان من الصدمة، تركض بين الأجساد الصغيرة تصرخ:
«أسامة! أسامة! فين أنت؟ يا الله، فين ابني؟»
رأته، فانهارت على الأرض، مدت يديها إليه، قبلته في وجهه حضنته بقوة:
– يا حبيبي… كنت تقول لي تجهز لي هدف اليوم… يا ضي عيني . . ليش.ما ترد؟»
أم بشير هرعت وهي تصرخ، اختلط صوتها بالبكاء:
– بشير! قلت لك ما تخرج اليوم، ليش ما سمعتني؟ .
وقعت بجانبه، قبلت جبينه، أمسكت يده، تردد بين دموعها:
– يا ابني قوم انا رحت شليت لك الحذاء الرياضي اللي طلبته شوفه افرح به . .
أم أنس كانت تصرخ بصوت عالٍ، تدفع الناس
تبحث بجنون وهي تنادي عليه :
– يا أنس! فين؟ يا أنس، كنت أقول لك لا تلعب، ليش رحت؟!
وحين وجدته، انهارت، جلست، سحبت يده، ضمتها إلى صدرها:
«يا أنس، ما جاوبت على أسئلتك في الواجب… يا قلب أمك، افتح عيونك، قول أي حاجة…»
أما أم أحمد، فقد وصلت وهي تصرخ من بعيد، ركضت، وقعت مرتين من شدة الخوف، وحين رأته، احتضنته بكل قوتها تحاول إيقاف الدم بيديها:
«يا أحمد! يا مهجتي… ما كنت تترك البيت بدون ما تودعني… اليوم خرجت بدون ما تقول وداع، ليش؟»
خلف الأمهات، وصل الآباء، منهكين، متماسكين ظاهريًا، لكن أرواحهم تحطّمت في الداخل.
أبو مبارك جلس على الأرض، وضع رأس ابنه في حجره، مسح دمه بكمه نظر في وجهه مطولًا، ثم انهار:
– كنت أحلم أفرح فيك… كنت أقول تكبر وتساعدني .
ويصرخ وهو يشير لمكان المرتزقة :
– لعنكم الله يا مرتزقة قتلتم فلذة كبدي
في زاوية الساحة، بقيت الكرة مرمية، مختلطة بالغبار والدم، لا أحد يجرؤ على لمسها. كانت قبل دقائق فقط مصدر ضحكهم، حلمهم البسيط، أصبحت الآن شاهدة صامتة على جريمة مروعة .
أصوات البكاء ملأت القرية، الرجال يحملون الأجساد الصغيرة واحدًا تلو الآخر، يلفونها في الأقمشة البيضاء.
كل جسد يُرفع، يرافقه صراخ أم، وانهيار أب، وصمت جيران مذهولين غاضبين من توحش مرتزقة العدوان .
السماء كانت تراقب بصمت، الشمس غابت وكأنها خجلت من رؤية هذا المشهد، والقرية كلها تحولت في لحظات إلى مأتم مفتوح، كل بيت فيه حكاية ألم، كل قلب فقد قطعة منه في هذا العصر الدامي.
هكذا تحولت مباراة كرة صغيرة في ساحة ترابية، إلى جنازات خمسة أطفال، ومجزرة ستظل محفورة في ذاكرة كل أم وأب في العرسوم، وفي قلب كل من بقي على قيد الحياة .
وهكذا أظهرت مليشيات مرتزقة العدوان من جديد بشاعة وجهها المعهود ، حين استهدفت طفولةً بريئةً كانت تحلم فقط بهدف في ملعب ترابي.
إن دماء مبارك، وأسامة، وبشير، وأنس، وأحمد، لن تجف، ولن تُنسى. ستظل شاهدة على وحشيتهم، وستبقى تصرخ في ضمير العالم:
«هؤلاء كانوا أطفالًا، كانوا يلعبون، فقتلتم براءتهم.»
وهذه الدماء ستكتب شهادة أبدية ضد من أطلق القذيفة، وضد أسيادهم وضد من بارك وسكت، وستظل تلعن كل يدٍ تلطخت بدماء الطفولة.
وضد تحالف أهلك اليمن أرضاً وإنساناً منذ سنوات ولا يزال..
بقلم/ مراد راجح شلي*