مصر في شراك الهيمنة: كشف الأهداف الأمريكية – الصهيونية وصراع السيادة!!
يظل المشهد السياسي في “الشرق الأوسط” مسرح لديناميكيات معقدة، تتداخل فيها المصالح الدولية مع الطموحات الإقليمية، وتبرز مصر كلاعب محوري في هذه اللعبة الشطرنجية، تسعى جاهدة للحفاظ على سيادتها وتأمين مصالحها الوطنية في مواجهة ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، ففي قلب الصراع الدائر، تتكشف فصول جديدة من العلاقة المتشابكة بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب، حيث تتجلى الأهداف الأمريكية الاسرائيلية في محاولة لكبح أي نهوض مصري حقيقي، في حين تسعى مصر لرسم مسار يضمن لها سيادة كاملة في بناء استراتيجية دفاعية رادعة.
يمني برس | يحيى الربيعي
كامب ديفيد… قيد أم سلام؟
ولتكن البداية، من كامب ديفيد، حيث لم تكن هذه الاتفاقية وثيقة سلام حقيقي، بل كانت، بحسب مراقبين، وثيقة استسلام استراتيجي مقنن، ففي ظاهرها، وعدت هذه الاتفاقية بالسلام والاستقرار في المنطقة، لكن في جوهرها، رسخت مبدأ “التفوق النوعي للكيان الصهيوني” كعقيدة ثابتة للسياسة الأمريكية في المنطقة، هذا المبدأ، الذي تجاوز كونه شعار، أصبح التزام أمريكي بضمان امتلاك الكيان لأحدث وأقوى الأسلحة، والحفاظ على ميزة عسكرية ساحقة على أي دولة عربية، وهنا يكمن الشرك الأول.
بعد توقيع كامب ديفيد، تدفقت المساعدات العسكرية الأمريكية على مصر بمليارات الدولارات. هذه المساعدات، التي بدت سخية للوهلة الأولى، لكنها كانت في حقيقتها أغلال غير مرئية، فكل دولار كان مشروط بشراء الأسلحة الأمريكية، مما حول الجيش المصري إلى زبون دائم لواشنطن، مقيد بذلك حريته في تنويع مصادر تسليحه، هذا الاعتماد خلق تبعية تكنولوجية ولوجستية، حيث أصبحت صيانة الأسلحة وقطع الغيار والتدريب مرهونة بالإرادة الأمريكية، وهو ما يمثل جوهر الفخ: تحويل الحليف إلى تابع، والسيادة إلى وهم.
المعونة الأمريكية لمصر، التي تبلغ 2.1 مليار دولار سنوي (منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية و1.3 مليار دولار معونة عسكرية)، جاءت في أعقاب توقيع اتفاقية السلام المشؤومة عام 1979. ورغم أن هذا المبلغ يمثل 57% من إجمالي ما تحصل عليه مصر من معونات ومنح دولية، إلا أنه لا يتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري، مما يثير تساؤلات حول جدوى هذه المعونة في ظل القيود المفروضة عليها.
القاهرة اليوم… تحديات أمنية متصاعدة ومسار جديد
في خضم الحرب المستمرة في غزة منذ أكتوبر 2023، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رفضه القاطع لتهجير الشعب الفلسطيني، معتبر ذلك “ظلم” لا يمكن لمصر أن تشارك فيه. وشدد على ثوابت الموقف المصري التاريخي للقضية الفلسطينية، مؤكد أن القاهرة عازمة على العمل مع الولايات المتحدة للوصول لسلام منشود قائم على حل الدولتين، وأن “هناك حقوق تاريخية لا يمكن تجاوزها”.
وتزامناً مع هذه التطورات، برزت قضية تعليق الولايات المتحدة لرحلات المراقبة الجوية لسيناء وعمليات التفتيش البري التي تقوم بها القوة متعددة الجنسيات (MFO) كأحد المحاور الرئيسية في الخلاف بين القاهرة وتل أبيب. اعتبر الكيان هذه الخطوة انتهاك خطير للملحق الأمني لاتفاقية السلام مع مصر، بينما رأت القاهرة أنها استجابة للظروف الاستثنائية التي خلقتها المواجهات على الحدود وضرورة إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية.
من وجهة نظر القاهرة، شكلت التطورات الميدانية الأخيرة، خاصة في رفح، تهديد مباشر على حدودها الجنوبية. ورأت السلطات المصرية أن مهام المراقبة التقليدية للقوة متعددة الجنسيات لم تعد توفر الحماية الكافية، بل تستنزف قدرات المراقبين وتعرضهم للخطر. لذلك، أوقفت القاهرة استقبال مفتشي (MFO) لمنطقة الأنفاق وجمدت الرحلات الجوية فوق سيناء، مبررة ذلك بضرورة تركيز الجهود على تعزيز انتشار الوحدات العسكرية ودعم عمليات الإغاثة الإنسانية في غزة، وهو ما يعكس رؤية مصرية متجددة للتهديدات.
صفقة “سوخوي-35″… كسر القيود أم فخ جديد؟
تبرز قضية صفقة مقاتلات “سوخوي-35” كشاهد صارخ على فخاخ الهيمنة، هذه القصة لم تتوقف عند صفقة سلاح أحبطت، بل فتحت نافذة تطل على عقود من الاستراتيجيات المحكمة التي نسجها العدو الأمريكي-الصهيوني لضمان التفوق المطلق لكيان الاحتلال الاسرائيلي وتعطيل أي نهوض حقيقي في المنطقة. لتبرز عياناً قصة كيف تحولت الاتفاقيات والمساعدات، التي بدت في ظاهرها دعم، إلى شراك عنكبوتية محكمة تقيد السيادة وتعجز القدرة.
إن مصر، بحكم موقعها الجيوسياسي وتاريخها العسكري، هي أكثر الدول العربية تتعرض لضغوط أمريكية، لأنها تمثل “تهديد حقيقي يقلق اسرائيل”، هذا هو جوهر القلق الأمريكي-الاسرائيلي، الذي يدرك تماماً أن القوة العسكرية المصرية، في حال استقلال قرارها وتطورها النوعي، فإنها ستشكل رقماً صعباً في قائمة القدرة على قلب موازين القوى في المنطقة، وخاصة محور المقاومة التهديد الأول والوحيد في ساحة العربدة الاسرائيلية يتوسع نطاقها في المنطقة .
التعليقات التي تنتقد مصر، وتدعي أنها “لا تملك السيادة على قراراتها مادامت تتلقى مساعدات أمريكية”، تشير إلى حقيقة مرة: أن المساعدات الأمريكية لم تكن سوى ثمن لتقييد السيادة المصرية، أشبه بمنحة تقيد يدي وعيني المستلم، وتجعله أسير لإملاءات المعطي. هذا ما تؤكده حقيقة أن أمريكا “لن ترضى أن تمنح مصر أي طائرة أكثر تطور مما تمنحه لإسرائيل”. هنا تكمن المؤامرة: صناعة تفوق نوعي للعدو على حساب القوة العربية الحقيقية.
بعد عقود من هذا الاعتماد، ومع تغير المشهد الجيوسياسي، بدأت مصر تسعى لتنويع مصادر تسليحها. كانت صفقة مقاتلات “سوخوي-35” الروسية تجسيد لهذا التوجه. هذه المقاتلة الاعتراضية المتطورة، التي توصف بأنها “صائدة” للمقاتلات الشبحية مثل “إف-35” الاسرائيلية، كانت تشكل تهديد مباشر لمبدأ التفوق النوعي.
وهنا، بدأت خيوط المؤامرة تُشدّ. فور بدء المفاوضات، تصاعدت الضغوط الأمريكية بشكل هستيري، ليس مجرد تحذيرات دبلوماسية، بل تهديدات صريحة بالعقوبات بموجب قانون (CAATSA)، وهو القانون ذاته الذي استخدم لمعاقبة تركيا. هذا الضغط يؤكد أن الهدف ليس “ميزان القوى الإقليمي” العام، بل ميزان القوى “الصالح للكيان”.
الضغط الأمريكي الهائل لثني مصر عن صفقة “سوخوي-35” الروسية لم يكن ليحدث “لو كانت الطائرة سو-35 ليست طائرة قوية وذات قدرة هائلة”، رغم أن إسرائيل تمتلكها بالإضافة إلى الإف 35 الأمريكية إلا أن شدة الضغط الأمريكي تؤكد مدى خطورة هذه المقاتلة على التفوق الاسرائيلي. هذا دليل واضح على أن واشنطن تمارس سياسة “التعجيز المتعمد” تجاه مصر، بهدف إبقائها في حالة ضعف عسكري مقارنة بالكيان.
ثم جاءت الخطوة التالية في الشرك: تكتيك “العيوب الوهمية والإغراء المضلل”. فجأة، بدأت تقارير تشير إلى أن الصفقة قد تلغى بسبب “عيوب في تجهيزات الطائرات وأنظمة تشغيلها القديمة”. هذه “العيوب” قد تكون جزء من حملة تشويه ممنهجة، تهدف إلى تبرير إلغاء الصفقة بذرائع فنية بدل من الأسباب السياسية الحقيقية.
وفي الوقت نفسه، قدمت واشنطن “إغراء” لمصر: مقاتلات “إف-15 إيجل” الأمريكية. هذا العرض ليس سوى استبدال قيد بقيد آخر، فـ”إذا اشترت مصر هذا النوع من الطائرات الأمريكية عوضاً عن السوخوي-35 الروسية، فهذا يعني انبطاح مصري تام لإسرائيل ولمشاريعها في المنطقة”، كما إن في ذلك تأكيد على أن أمريكا “لن ترضى أن تمنح مصر أي طائرة أكثر تطور مما تمنحه لإسرائيل”، وهذا هو جوهر معادلة التعجيز المتعمد.
شبح الطائرات الشبحية الصينية.. قلق جديد في الأفق
في خضم هذا الصراع، يظهر لاعب جديد قد يغير قواعد اللعبة: الصين، “قلق إسرائيلي بعد أنباء قرب حصول مصر على مقاتلة شبح صينية مكافئة للـ”إف-35″ الأمريكية” يؤكد أن المؤامرة لا تقتصر على روسيا وحدها. فالصين، التي أصبحت شريك استراتيجي لمصر، وتمتلك مقاتلات متطورة مثل J-10C وربما J-35 الشبحية، تقدم لمصر بديلاً استراتيجي للهروب من قفص الهيمنة الأمريكية.
لكن، التعاون العسكري المتنامي بين مصر والصين، وتوطين الصناعات المتقدمة، خاصة تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، هو الآخر يثير قلق عميق في واشنطن وتل أبيب. فالولايات المتحدة “لم تعد مستقرة في علاقاتها الاستراتيجية عبر العالم منذ 2001″، وتعطي الأولوية لحليفتها المدللة “إسرائيل” على حساب التعاون مع الدول العربية. هذا التخبط الأمريكي يدفع مصر للبحث عن “شركاء موثوقين لتوطين هذه الصناعات وتعزيز قوتها الشاملة، دون الإضرار بالعلاقات مع واشنطن”.
إن المقاتلات الصينية، على عكس الأمريكية والروسية المصدرة، قد تكون “مكشوفة بنسبة 100% “، وبالتالي قد تشكل “مفاجأة لاسرائيل”. هذا الاحتمال هو ما يصيب اسرائيل بالرعب، لأنه يهدد تفوقها النوعي المطلق.
القاهرة… خطوة نوعية نحو تعزيز قدراتها الدفاعية
هذا التطور يأتي في سياق جيوسياسي بالغ التعقيد، تزامناً مع تراجع الدعم العسكري الأمريكي، مما يضع مصر على مفترق طرق بين الاعتماد على الذات وتحديات التوازنات الإقليمية. من هنا، تصاعدت حدة التوترات الإقليمية لتلقي بظلالها على المشهد المصري، حيث أعلنت القاهرة عن دخولها عصر الاكتفاء الذاتي في مجال الصناعات العسكرية.
وفي مشهد يعكس تحول استراتيجي في عقيدة الدفاع المصرية، كُشف الستار عن راجمة الصواريخ محلية الصنع “رعد 200″، والتي وصفتها القاهرة بأنها خطوة نوعية نحو تعزيز قدراتها الدفاعية. المنظومة الجديدة، التي تتمتع بقدرات تدميرية واسعة ومدى يتجاوز 40 كيلومتر، أثارت اهتمام واسع، خاصة وأنها تستطيع إطلاق 20 صاروخ في 12 ثانية فقط، وهو ما يمنحها قوة نيران هائلة وسرعة استجابة فائقة.
تتكون “رعد 200” من راجمة صواريخ محمولة على مركبة مدرعة ذات جنزير، صُممت بالكامل في مصر بنسبة 100%، باستثناء المحرك الذي يتم استيراده. تعكس هذه الخطوة رؤية القيادة المصرية للتحول نحو الاعتماد على الصناعات المحلية في تسليح الجيش، خصوص بعد تراجع الدعم العسكري الخارجي. فوفق لتصريحات رسمية، جاءت هذه الخطوة رد على تقليص ثم وقف المساعدات العسكرية الأمريكية التي كانت مقررة بموجب اتفاقية كامب ديفيد لعام 1979، بعد أن بدأت واشنطن في إعادة تقييم دعمها للقاهرة عقب الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ السابع من أكتوبر.
إلى جانب “رعد 200″، كشفت الهيئة العربية للتصنيع عن تطوير وإنتاج صاروخ جديد من عائلة صواريخ “الصقر” عيار 122 ملم، وهو صاروخ “الصقر ثيرموباريك”. هذا الصاروخ الجديد، الذي يستخدم على راجمة “رعد 200″، يمتلك مدى تشغيلي يصل إلى 20 كيلومتر، ويحمل رأس حربي يزن 18.45 كيلوجرام.
تُعد صواريخ الثيرموباريك، أو “الضغط الحراري”، من الذخائر المتفجرة التي تعمل عن طريق نثر سحابة من الغاز أو السوائل المتفجرة. وتتميز هذه الأسلحة بكونها أكثر نشاط بكثير من المتفجرات التقليدية ذات الوزن المتساوي.
الكشف عن منظومة “رعد 200” وصواريخ “الصقر” يمثل نقلة نوعية في قدرات الصناعة العسكرية المصرية، ويطرح تساؤلات حول طبيعة الاستعدادات المصرية للمستقبل في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة. فهل بدأت القاهرة بالفعل في الاستعداد لمعركة كبرى، أم أن هذه الخطوات تأتي في سياق استراتيجية دفاعية شاملة لتعزيز الأمن القومي في بيئة إقليمية مضطربة؟
هل تستيقظ الأمة من سبات “عدم الحساب”؟
الطريق لا يزال وعر، فالمؤامرة لن تتوقف. “أمريكا حتماً ستمنع مصر من إبرام الصفقة الصينية” إذا رأت أنها تهدد تفوق اسرائيل. هذا يبرز أن “شراء السلاح النوعي يحتاج دولة تقدر سيادتها ولا تخضع للإرادة الأمريكية”.
إن قصة مصر في شباك العناكب هي تحذير صارخ لكل أمة. فالاتفاقيات والمساعدات، التي تبدو في ظاهرها فرص، قد تكون في حقيقتها شراك محكمة، تصمم لتعجيز الأمة وإبقائها أسيرة للهيمنة. الخروج من هذا الفخ يتطلب وعي استراتيجي، وتخطيط طويل المدى، وشجاعة لرفض الإملاءات، والبحث عن مسارات بديلة تعزز السيادة الحقيقية وتمكن الأمة من بناء قوتها الذاتية.
في النهاية، يظل التساؤل المؤلم معلق: “من أجل ماذا تشتري الدول العربية وتجمع كل هذه الأكوام الهائلة من الأسلحة والعتاد من مختلف أطراف الصراع الدولي، ولاسيما وأنها لا يمكنها بأي حال من الأحوال التفوق على ما تمنحه تلك الأطراف للعدو الصهيوني من أسلحة استراتيجية فائقة القدرة على تدمير أي قوة عربية، وأن نتيجة أي مواجهة عربية مع العدو مكفولة بضمانات عالمية بألا تتجاوز نتائج هزيمة 1948 مروراً بالنكسة وما يليها من مواجهات…؟”. هذا السؤال الجوهري يلخص عمق المأزق. فإذا كان “الجيش المصري تم تحييده في كامب ديفيد”، وإذا كان العدو الصهيوني”قادر على تدمير مصر واغتيال” قادتها، فما الفائدة من كل هذه الترسانة العسكرية التي تقيدها الاتفاقيات وتحجمها المساعدات؟
إن ما حدث لمصر هو درس قاس للأمة بأسرها. إن الاعتماد على المساعدات الخارجية، والانضمام إلى معاهدات تقيد السيادة العسكرية، وعدم “الحساب” الدقيق للعواقب الاستراتيجية طويلة المدى، يجعل الدول العربية فريسة سهلة لشباك المؤامرات. إن فهم حديث “نحن أمة لا نكتب ولا نحسب” يجب أن يكون نقطة انطلاق لنهضة استراتيجية، تعطي الأولوية للتخطيط طويل المدى، وتنويع مصادر القوة، والتحرر من أغلال التبعية، حتى لا تصبح الأمة مرة أخرى فريسة لشراك الأعداء.
فهل ستتعلم الأمة من هذا الدرس، لاسيما وأنها أمام فرصة تاريخية، إذا لم تستثمر، فلا يمكن أن تتكرر على مدى المستقبل البعيد، ألا وهي معركة طوفان الأقصى ومحاور الإسناد في إيران واليمن والعراق ولبنان، أم ستظل أسيرة لـ”سياسات الأمر الواقع” التي يفرضه عليها أعداؤها؟