شواطئ غزة.. حكايات صمود تتحدى مرارة البحر ووحشية الاحتلال!!
شواطئ غزة.. حكايات صمود تتحدى مرارة البحر ووحشية الاحتلال!!
يمني برس | تقارير
على شواطئ غزة، حيث كان هدير الموج يوماً أنشودة للرزق ومرتعاً لأحلام الصغار، تحولت الصورة اليوم إلى مشهدٍ درامي يروي فصول مأساة إنسانية عميقة. هنا، تتجلى قسوة الاحتلال وسياساته الممنهجة لتدمير كل مقومات الحياة، بينما تتشابك حكايات الصمود مع مرارة الفقد. مع استمرار العدوان الشرس على القطاع، تتعمد آلة الاحتلال الصهيوني استهداف قطاع الصيد بشكل وحشي، دافعة بآلاف الصيادين وعائلاتهم إلى بحرٍ من اليأس، يلوح فيه شبح الجوع ليطارد كل بيت.
من “أسطول الأحلام” إلى مرارة البقاء.. قصة صياد غزاوي
في عمق المأساة، تبرز حكاية صياد مخضرم، بات شاهداً حياً على تحولات قاسية طالت حياته وحياة مئات الصيادين. بقلب يعتصره الألم، يسترجع هذا الرجل أياماً خلت، حين كان يمتلك أسطولاً من قوارب الصيد، كانت رمزاً لعزه وكرامته. بكلمات تفيض حسرة على ماضٍ تبدد، وحاضرٍ مثقل بالمعاناة، يقول: “أنا كان عندي لانش جر ولانش شنشولة وبيجي 10، 12 حسكة…”.
يستطرد الصياد في وصف الميراث الذي تركه لهم والدهم، وكيف تكوّن هذا الرزق بجهد وعرق السنين: “إحنا تسع إخوة أبونا هذا ترك لنا إياهم وساب لنا إياهم وهذول تكوّنوا الله يعلم كيف تكوّنوا؟ تكوّنوا بتعب وشقاء وإجا الحرب ودمرونا…”. تتجلى في كلماته قسوة القدر، وكيف عبثت آلة التدمير الصهيونية بكل ما بنوه وشيدوه على مدار عقود. فجأة، تحول من مالك لأسطول بحري إلى عامل بسيط على متن أحد القوارب، يصارع أمواج الحياة المتلاطمة بحثاً عن لقمة العيش.
لم يتوقف الحال عند هذه المحطة، ففي خضم مرحلة جديدة من الضياع، وجد الصيادون الغزاويون أنفسهم تائهين، لا يعرفون إلى أين يذهبون أو كيف يواجهون مصيراً مجهولاً. يصف الصياد الوضع المرير: “لا عرفنا وين نروح ولا وين نيجي، …..، حتى أننا، والشكوى لغير الله مذلة، صرنا عايشين على التوجه على سلات المساعدات.. وحتى هذه المساعدات باتت تأتينا بالقطارة ومحفوفة بالموت”. كلمات تختزل واقعاً مريراً، حيث بات حتى الاعتماد على المساعدات، تلك الشحيحة المحفوفة بالموت، لم يعد سبيلاً متاحاً للبقاء على قيد الحياة.
قصة هذا الصياد هي صدى لمئات الآهات المدوية التي تعبر عن معاناة جيل كامل من الصيادين في القطاع، الذين فقدوا كل شيء، وباتوا يعيشون على هامش الحياة، ينتظرون بصيص أمل يضيء لهم دروبهم المظلمة.
من شريان حياة إلى ركام.. سياسة تجويع ممنهجة
في حوض ميناء غزة البحري، حيث كانت المئات من قوارب الصيادين ترسو بعد ليالٍ طويلة من الصيد في عرض البحر، لم يتبقَ اليوم سوى مخلفات المراكب الغارقة، وأرصفة مدمرة تتزاحم بينها خيام نازحين فروا من مناطقهم مع تصاعد العمليات العسكرية المستمرة في القطاع منذ أكثر من 20 شهراً. إنه مشهدٌ يعكس حجم الدمار الذي لحق بالقطاع، ليس فقط في مبانيه ومنشآته، بل في شرايين حياته الاقتصادية، ضمن سياسات هي جزء من خطة ممنهجة لتجويع سكان القطاع وكسر إرادتهم، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
لطالما شكّل قطاع الصيد في غزة مصدر رزق لأكثر من 6,000 فلسطيني، لكنه اليوم يواجه انهياراً شبه تام. يصف العاملون فيه ما يحدث بأنه “الاستهداف الممنهج” للبنية التحتية الخاصة بهذا القطاع الحيوي. ووفقاً لتقرير مشترك صادر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان وشبكة المنظمات الأهلية في غزة، فإن تداعيات العدوان كانت كارثية:
قُتل ما لا يقل عن 202 شخصاً من العاملين في قطاع الصيد منذ اندلاع الحرب، بينهم 50 قُتلوا بنيران الزوارق التابعة للاحتلال أثناء مزاولتهم لمهنتهم في البحر. كما أُصيب أكثر من 300 آخرين، من بينهم 20 إصابة وقعت داخل البحر. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي قصص حياة انتهت أو تشوهت بفعل سياسات القمع الصهيونية.
أشار التقرير إلى أن أكثر من 90% من قوارب ومراكب الصيد، بالإضافة إلى غرف ومخازن الصيادين، تعرضت للتدمير الكامل. هذا الدمار لم يقتصر على الممتلكات المادية؛ بل أدى إلى فقدان ما لا يقل عن 4,500 صياد و1,500 عامل في المهن المرتبطة بالصيد مصدر دخلهم الوحيد.
زكريا بكر، منسق لجان الصيادين في قطاع غزة، أكد أنه منذ اللحظات الأولى للحرب “مارست قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليات قصف ممنهجة على مراسي ومراكب الصيادين من خلال الزوارق والطائرات الحربية، ما أدى إلى تدمير نحو 95% من ممتلكات الصيادين، بما في ذلك مصانع الثلج، غرف بيع الأسماك، والحسبة الرئيسية داخل الميناء”. وأضاف بكر أن الهجمات طالت جميع المراكب في مدينة غزة، “ولم يتبق سوى قارب واحد تم قصفه مؤخراً”. وشدد على أن “الاحتلال قضى بشكل كامل على قطاع الصيد، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر على الأمن الغذائي لنحو مليوني فلسطيني في القطاع.
“كل يوم نخرج فيه إلى البحر نواجه الموت”، هكذا وصف الصياد زكي النجار، الذي فقد شقيقه منذ حوالي شهر نتيجة إطلاق نار من زوارق تابعة للاحتلال، الواقع المرير الذي يعيشه صيادو غزة. وقال بحسرة وصمود: “نعود بالأسماك لكن بثمن الدم. نريد إطعام أولادنا. لذا سنستمر في العودة إلى البحر مهما كثر عدد الشهداء. لن نترك البحر، فهذه مهنتنا ولن نتخلى عنها مهما كلف الأمر”. هذه الكلمات تعكس روح المقاومة والصمود الفطري لدى هؤلاء الصيادين، الذين يرفضون الاستسلام لسياسات التجويع.
من جهته، يقول الصياد محمود الهسي، الذي فقد ثلاثة مراكب صيد كبيرة خلال الحرب، إن القطاع بات عاجزاً عن تلبية الطلب المحلي على الأسماك. وأكد لمراسل الأمم المتحدة أن حوالي 47 “حسكة صغيرة” – وهي قوارب وشبه قوارب صغيرة – تخرج من حوض الميناء، وتنتج يومياً من 200 إلى 500 كيلوغرام فقط من السمك. هذا الرقم يعد تراجعاً هائلاً مقارنة بما قبل العدوان.
وأضاف الهسي: “في السابق، كان سعر الكيلو يتراوح بين 20 و25 شيكلاً، أما اليوم فقد وصل إلى ما بين 300 و400 شيكل، وهو ما يفوق قدرة المواطن على الشراء في ظل الأزمة الخانقة”. هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار يعكس عمق الأزمة الاقتصادية وتأثيرها المباشر على قدرة الأسر على تأمين الغذاء.
قيود مميتة.. البحر صار فخاً
في تقرير سابق صدر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أفادت المنظمة بأن قطاع الصيد في غزة كان يشكل قبل الحرب مصدر رزق رئيسي لنحو 6,000 شخص، بينهم 4,200 صياد مسجل، وكان يعيل قرابة 110 آلاف نسمة في المجمل. هذه الأرقام تظهر حجم الشريان الذي قطعه الاحتلال. وأوضحت المنظمة أن الصيادين كانوا يواجهون قيوداً مشددة حتى قبل التصعيد الأخير، إذ أن المناطق التي يسمح بها الصيد تقتصر على ستة أميال بحرية شمالاً و15 ميلاً جنوباً. أما اليوم، فأصبح الصيد يجري على بعد أمتار قليلة من الشاطئ، ما يجعل حياة الصيادين في خطر دائم، ويزيد من صعوبة الحصول على كميات كافية من الأسماك.
وذكرت منظمة الفاو أن مرفأ غزة البحري، شمال وادي غزة، تعرض لأضرار جسيمة أدت إلى تدمير الغالبية العظمى من القوارب، مما فاقم أزمة الأمن الغذائي في القطاع. “الأسماك، التي كانت تشكل يوماً مصدراً حيوياً للبروتين والمغذيات الأساسية لسكان غزة، أصبحت شبه معدومة في السوق المحلي”.
لقد دمرت أحلام الصيادين، فما تبقى لهم سوى الدمار والرماد من مراكبهم وشباكهم التي طالها الحرق والتفجير والتخريب. وحتى قوارب الصيد الصغيرة التي لم تدمر، أضحت عديمة الجدوى لفقدان الشباك، ومن كان محظوظاً بسلامة قاربه، سيتعين عليه مواجهة خطر الاعتقال ونيران الزوارق الحربية التابعة للاحتلال.
إن ممارسات الاحتلال بحق الصيادين لا تتوقف عند التضييق وحسب، بل تتجسد في جرائم ممنهجة ومتعددة الأوجه. فالحصار البحري الخانق يحد من مساحات الصيد، ويقسم البحر إلى مناطق محظورة، مما يجعل مهنة الصيد شبه مستحيلة. كما تتواصل عمليات الملاحقة والمطاردة اليومية من قبل الزوارق الحربية التابعة للاحتلال، والتي ازدادت وتيرتها بشكل لافت. ففي النصف الأول من هذا العام وحده، سجلت نقابة الصيادين ما يقارب من 220 عملية إطلاق نار وملاحقة، أسفرت عن اعتقال 41 صياداً، وإصابة 18 آخرين، ومصادرة 13 قارباً، وتدمير 18 قارباً، بالإضافة إلى تخريب مئات من شباك الصيد.
يُضاف إلى ذلك، العقوبات البحرية التي تمنع الصيادين من الوصول إلى مناطق الصيد الحيوية، حتى في ظل تلوث البحر بالمياه العادمة، مما أثر بشكل كارثي على الثروة السمكية. يقول أحد الصيادين بحسرة: “المسافة اللي بدنا إياها بالبحر الـ 15 ميل كانت مفيدة أنا كصياد… ولكن ما فيش، إذا خلونا يجي الاحتلال أو الإسرائيليين أو من يستوردها فيه… لا مكائن ولا قطع غيار ولا كابل ولا شيء كله ممنوع”. قيود قاسية جعلت من قطاع الصيد، الذي يعيش منه أكثر من 50 ألف إنسان بشكل مباشر وغير مباشر، بات على شفا الانهيار التام.
حصار يتجدد وقصص صيادين لا تنتهي
في غمرة الأحداث المتسارعة التي تشهدها غزة، يبرز صوت بحر غزة كشاهدٍ صامتٍ على فصولٍ جديدةٍ من المعاناة الإنسانية، خطّت فصولها آلة القمع الصهيونية. بين تلك القصص، تبرز حكاية الصياد أدهم كلاب، الذي اعتاد تحدي أمواج البحر لكسب رزقه، ليجد نفسه اليوم يواجه أمواجاً أشد قسوة: أمواج الحصار والتجويع الممنهج.
ويروي كلاب بتفاصيل مؤلمة ما جرى يوم الجمعة، 12 يوليو 2025، واصفاً إياه بـ”اليوم الأسود” في ذاكرة صيادي غزة. ففي ذلك اليوم، جاء قرار عسكري مفاجئ، أعلنت بموجبه القوات البحرية التابعة لكيان الاحتلال الإسرائيلي إغلاق بحر غزة بالكامل، ومنع الصيادين من الإبحار “حتى إشعار آخر”. لم يكن هذا القرار مجرد حبر على ورق، بل تُرجم على الفور إلى إجراءات وحشية في عرض البحر.
بدأ التنفيذ بإطلاق وابل كثيف من الرصاص، وهُدِّد الصيادون العائدون من عرض البحر قبالة خان يونس وغزة بالقصف المباشر، في مشهدٍ بث الرعب في قلوبهم وأجبرهم على العودة تحت وطأة التهديد. لكن يد القمع لم تتوقف عند الصيادين فحسب، بل امتدت لتطال حتى المصطافين الباحثين عن بصيص أمل على شواطئ السودانية شمالاً والزوايدة وسطاً. اقتربت زوارق الاحتلال منهم بشكل خطير، آمرةً إياهم بالابتعاد، ما حول لحظات الهدوء إلى فوضى وذعر، وبدد أحلام العائلات في متنفسٍ من قسوة الحياة.
هذه ليست المرة الأولى التي يفرض فيها كيان الاحتلال قيوداً على بحر غزة، فغالباً ما تُستخدم هذه الإجراءات كورقة ضغط على سكان القطاع المحاصر، وتأتي ضمن سياسة التجويع الممنهجة التي تهدف إلى خنق الحياة في القطاع المحاصر. وفي كل مرة، يدفع الصيادون وعائلاتهم الثمن الأكبر، ليجدوا أنفسهم بين مطرقة الحاجة وسندان الحصار.
البحر.. من شريان حياة إلى حبل مشنقة
لطالما كانت مهنة الصيد تُعد في قطاع غزة مصدراً رئيسياً للرزق، ورئة حيوية تتنفس منها آلاف العائلات، خاصة في ظل الحصار الخانق الذي يفرض قيوداً مستمرة منذ سنوات طويلة. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بشكل غير مسبوق، وتفاقم أزمة الغذاء نتيجة الإغلاق الكامل للمعابر منذ مارس 2025، ونفاد غالبية المواد الغذائية، أصبح البحر هو الملاذ الأخير لشعب يتضور جوعاً. لكن، اليوم، يرى الصيادون، وعلى رأسهم أدهم كلاب، أن القرار الأخير حول تقييد الصيد هو “عقاب جماعي قاسٍ”، يقضي على أملهم في حياة كريمة، ويهدد بقطع آخر شريان حيَاتهم، في ظل ظروف غاية في القسوة.
وفي واقع الأمر، ما يحدث في بحر غزة ليس بجديد، فالقوات البحرية التابعة للاحتلال تفرض منذ سنوات رقابة صارمة، تشمل إغلاق الموانئ بشكل مفاجئ، وتقليصاً مستمراً لمساحات الصيد، التي كانت في الماضي تمتد إلى 20 ميلاً بحرياً، قبل أن يتم تقليصها تدريجياً إلى 3-6 أميال، وغالباً أكثر، بشكل تعسفي ومتعمد. هذه الإجراءات ليست سوى جزء من سياسة العقاب الجماعي الممنهج، التي تهدف إلى تجويع السكان وإخضاعهم، وتؤدي إلى تفاقم معاناتهم، وتدمير مصدر رزقهم الوحيد.
وفي عمق المشهد، يقف المئات من الصيادين، وآلاف من أبناؤهم، وأسرهم، يترقبون المجهول، في ظل غياب الأمل. بل وهم اليوم مهددون بفقدان كل شيء. وفي السياق، تتوالى التحذيرات الدولية من خطر مجاعة وشيكة، حيث تقول تقارير الأمم المتحدة إن قرابة 195 ألف مدني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وقعوا بين شهيد وجريح منذ بدء الأزمة الحالية. بالإضافة إلى ذلك، يُجبر مئات الآلاف على النزوح من منازلهم، بعدما فقدوا كل شيء، في مشاهد مأساوية تتكرر يومياً.